التسمم الذهني.. خطورة الفكاهة على العقل
المفارقة أُمُّ الفكاهة، وهي أفضل حصان طروادي لتمرير المغالطات المنطقية. دقِّق وافحص جميع نكات الدنيا، وكل التعليقات الظريفة، التي قد تسمى -زورًا- التعليقات الذكية، انظر في كل دعابة، وابقر بطن أي طرفة، لن تجد واحدة منها تعدم ضربًا من ضروب الأغاليط، والالتباس. إننا قد نضحك من المفارقة، لكن تكرار المفارقات يسلبنا القدرة على تمييزها. فلنحذر جميعًا: الكوميديا قادرة على توجيه آراء الناس بدون حجج منطقية، بل إن الكوميديا تقوم على المغالطة التي قد تُسمى «مفارقة». هذه المفارقة التي تدغدغ العقل وتحقنه بالمتعة، إنما هي بهجة ذهنية ملغومة بالخرافة؛ الفكاهة تغزونا بالأوهام والأكاذيب، تغرز الكوميديا أفكارًا في عقولنا، ونحن في حالة عدم دفاع عن النفس – نحن سكارى إذ نضحك.

تمرير الخرافات
أخطر ما في الفكاهة هو قدرتها الفتاكة على دحض أي تفكير عقلاني. الكوميديا سلاح فتاك. إن أي ساخر محترف لقادر على أن يصرع أحكم الفلاسفة وأذكى العلماء في أي جدل، مهما بلغ تهافت حجته، بل حتى وإن لم تقم دعواه على حجة صحيحة من الأصل. ماذا يقول السفيه في حلبة النقاش؟ «لماذا يتوجب عليَّ أن أبارزك بالحجج، إن كان في استطاعتي أن أغتالك بالسخرية»!
لدينا مثال قريب: باسم يوسف. فهذا رجل بلغ من الذكاء مبلغًا استطاع به تمرير بعض الأفكار الغبية بالفكاهة دون أن يلاحظ الجمهور فساد حجته [لننتبه أن كلمة (witz) في الألمانية تفيد الدعابة والفطنة معًا. فالدعابة ضرب من الذكاء اللغوي] أو -وهو الأعجب- من غير أن يلاحظ الجمهور أن دعواه عارية من أية حجة من الأساس. ههنا مناط قوة الساخر الموهوب: إنه لَيستطيع أن يجعل الهراء وجهة نظر معتبرة، إذا نجح في تبكيت الخصم بالتنكيت.
أحيانًا يكون للمفارقة الساخرة تأثير الصدمة للخصم والجمهور بل وللساخر نفسه الذي لم يتوقع بديهته! هنا يقع الفكاهي في شر فكاهته. فالكوميدي قد يكون أول ضحاياه؛ لأنه إن وجد أغاليطه المموهة بالفكاهة تلقى إعجاب الجمهور، فسينحاز إليها بلا تنبه، وقلما يتوقف برهة لمراجعة نفسه، وهذه مفارقة في ذاتها، لأن الكوميديا في منشأها قوامها بصيرة ثاقبة للحياة. قال تشرشل: «النكتة شيء غاية في الجد».
قد يلُوح للحكيم نافد الصبر أن المسألة إذا كانت أبده من أن تُفنَّد، فيُكتفى منها بضحكة ازدراء، وأنه لا بأس من الاستعانة بالكوميديا في دحض حجج الخصوم الباطلة، إن كانت بيِّنة التهافت. وههنا يستبد بنا سؤال: هل يجوز استخدام الفكاهة الساخرة لنصرة «الحق» (بالمعنى الحقوقي للكلمة)؟ هل يحق أن نستعمل السخرية للدفاع عن العقل؟ قد يستجيد بعض الإعلاميين والمثقفين تسخير الكوميديا في سبيل الدعاية «للحق». لكن ألا يجوَّز هذا الكوميديا الرجعية أيضًا؟ الكوميديا المفخخة بالتخلف، التي تروِّج الخرافات وتسخر من العقلانية سخرية تأسر قلوب الجماهير؟ إن الجمهور متعطش للفكاهة أبدًا، وهو لا يعاف ابتلاع كل شيء تمرره في عقله -إن كان له عقل.
يعن لي أن الكوميديا لا ينبغي أن تؤتمن على تأييد «الحقائق»، ليس لأن «الحق» غني عن نصرته «بـالباطل»، ولا لأن الحق الذي يحتاج للباطل ويحتج به، سيشوبه منه شائب لا محالة، فيستحيل «الحق» إلى «قضية» أو «أيديولوجيا» ليس هذا فحسب؛ [«الحق» و«الباطل» و«الأيديولوجيا» يا لها من كلمات مضحكة!]؛ ولكن لأن السخرية، وهي أفتك أسلحة الفكاهة، سيفٌ ذو شفرتين، مثلما تصلح لمقاومة التخلف ودحض الأكاذيب، فقد تُستخدم للفتك بالدرجة نفسها في الاتجاه المضاد. الكوميديا يجب أن تكون من الأسلحة المحظورة في الحِجَاج، وإقامة البينات؛ لإن قوامها التهويم والمغالطة. إنني هنا لأقول: إن الاستهزاء من أتفه الخرافات دون دحضها خيانة شرعية «للحقيقة». إن فولتير لم يكن فولتيريًا بالأساس!

الفكاهة مغالطة
ليس الضحك «ترياق سم الوهم» كما ظن جورج ميريديث في رسالته عن الكوميديا؛ لأن الضحك لا يفرق بين الصواب والخطأ، بل إن الضحك أداة تقويض جهنمية، قد تكون سلاحًا مدمرًا مثلما قد تصبح آلة نافعة. لهذا قال أمبرتو إيكو على لسان خورخي الضرير، عدو الفكاهة، [أو ربما قال خورخي الضرير بقلم إيكو!]، إن كِتَاب الكوميديا «قد يشعل الشرارة الشيطانية التي تضرم حريقًا جديدًا في العالم أجمع، إذ يكون الضحك الفن الطريف، الذي ما كان ليدر بخلد بروميثيوس في إبطال الخوف». لكن إن سألناه: لماذا يا خورخي كل هذا الرهاب من الضحك والفكاهة؟ لقال إنه يخشى اليوم الذي يُشهر فيه المتفلسفة سلاح الضحك «ويُستبدل خطاب الاستهزاء بخطاب الإقناع».
ما الذي يفعله المعتوهون والمعتلون نفسيًا، وكثير من طوائف الأغبياء، والذين لا طاقة لهم بدفع حجج الخصوم الداحضة؟ إنهم ينسلُّون من الجدل العقلاني، ويتراجعون عن مواجهة أنفسهم بتهافتهم، ويكتفون برمي ضحكة قارعة. انظروا حولكم في وسائل التواصل الاجتماعي، ستجدون كثيرًا منهم! لكن المناطقة لا يحتاجون للكوميديا قط لإثبات صوابهم؛ لأن السخرية طريقة غير تأملية في فحص الوجود، وأحوال البشر وأفعالهم، ومن الخفة والطيش والنزق الركون إليها والتعويل عليها. [وهذا لا يعني أن كل شخص أهلٌ لمطارحته السجال واتخاذه على محمل الجد والجدل؛ بعض الجهلاء والأغبياء يبلغون من الصلف مبلغًا يكون فيه مطارحتهم النقاش مكافأة لهم على جهلهم ومباراة لهم فيه. لكن الضحك في موضع الجد عيٌّ، مثلما أن الجد في مقام الضحك صلف].
قد يفيد الضحك القلب لكن الكوميديا تفتك بالعقول. وإن جاز لنا إساءة اقتباس ما قاله فيتغنشتاين -فيما زعمه جون موريال، أستاذ فلسفة الضحك- من أنَّ كِتَاب الفلسفة قد لا يحوي شيئًا غير النكت، التي قوامها المغالطات، والأغاليط اللغوية، وغيرها من ألوان الالتباس المنطقي عن مختلف المفاهيم والحجج. [ورغم أن فيتغنشتاين ينعى ههنا على الفلسفة لا الفكاهة، لكن لا بأس من هذه الإشارة، التي لا أعرف من أي داهية استقاها موريال؛ فإنني لم أقع عليها في أي متن من متون العزيز فيتغنشتاين، وإن كانت تليق بأسلوبه وتصح في مذهبه؛ ولهذا أثبتناها، والعهدة على الراوي] – لعرفنا أن الفكاهة ليست إلا أغاليط. فما أصدق ديفيد هارتلي حين قال: إن الذين يتحرّون الفكاهة يحرمون أنفسهم من الحقيقة.

التسمم بالإندروفين
قد تكون الفكاهة مفيدة إن كانت في حدودها المعقولة. ماذا سيقول لك طبيبك النفسي إن كان فيلسوفاً؟ «إن ما لا يقتلك ينبغي أن يضحكك». [وليسامحنا نيتشه على هذا التحريف] هذه وصفة فلسفية لمقاومة الاكتئاب، ومضاد نفسي للقولون العصبي. لكن مرة أخرى: الضحك شيء والسعادة شيء آخر. إن الضحك يختلف كليًا عن السرور. والاستغراق في القهقهة، وإدمان الكوميديا على هذا الغرار، قد يستحيل من علاج سلوكي إلى سم قاتل.
يعرف أطباء النفس وعلماؤها أن كثرة التعرض لمضامين الضحك قد يدمر نظام المكافأة في جهازنا العصبي؛ لأنه يجعل التركيز في الأمور المفيدة -التي ينجم من إنجازها جرعة طفيفة وصحية من السعادة- أشد مللًا وصعوبة. إن الدماغ البشري لم يتطور لكي يتحمل هذا الطوفان الغزير من الإندروفين الطافح في المضامين الكوميدية. هذا الكوليسترول العقلي كفيل بتخمة الدماغ وجعله «دهناً» لا «ذهنًا».
فقد لا يكون الضحك مخدرًا فحسب، بل مسممًا للحياة أيضًا، وهو ما نسميه «التسمم بالإندروفين» أو فرط إفراز الإندروفين والدوبامين المحض من جهة إدمان الضحك. وهكذا فإن مدمن الكوميديا: ذلك المخلوق التعس الذي يحاول استهلاك منتجات السعادة؛ إنما هو من حيث لا يدري تستهلكه التعاسة. فليست السعادة في استهلاك المتعة؛ وإنما هي ناتج الإنجاز. إن الابتسام بلسم، لكن الإغراق فيه مسمم، لأن النكتة وإن كانت أحيانًا عنوان الحقيقة، فإن الكثير من الفكاهة خيانة شرعية للعقل السليم.