الضحك المأساوي.. لماذا يضحك المصريون؟
قالت الأسطورة: المصريون أفكه الشعوب. ويزعم بعض الفرنسيين أنهم أظرف الناس، ويظن الإنجليز أنهم خير من يصنع الدعابة ويفهمها، بل إن الآلات الألمانية، التي جبلها الله من الفولاذ والتروس وأسلاك الكهرباء، تتوهم أنها تجيد النكات.
وسبق أن حاول عباس العقاد تفنيد زعامة المصريين للفكاهة باستظهارها في أمثال الشعوب؛ إذ ارتأى أن الأمثال الشعبية خير ما يكشف الصفات الغالبة على الأمم، وانتهى إلى وجود الطرافة فيها جميعًا. لكن منهج أديب أسوان غير سليم؛ لأن الأمثال الشعبية تميل بطبيعتها للحكمة الظريفة، فكأن العقاد بحث في نُكَت العالم على ما يبرر فكاهة شعوبه! لقد وصل إلى نتيجة معروفة سلفًا. وهي نتيجة مضللة، لأنها تضع جميع الشعوب في سلة فكاهية واحدة. وهذا وهم أجلى من أن يُدحض.

الشعوب الضاحكة
فإن الشعب الروسي الذي يستنكف كثيرٌ منه الابتسام، ويعدُّه من أَمَارات البَلَه، لا يجوز أن نضعه في خندق واحد مع الشعب الأمريكي صاحب براءتي اختراع المونولوج الكوميدي (stand-up comedy) وكوميديا المواقف التلفازية (sitcom) ولا يجوز أن نقايسه بالشعب الإنجليزي الذي ابتكر الكوميديا السوداء ابتكارًا، وعنده من تراث الفكاهة ومشتقاتها ما يرجح به أي شعب آخر. إن تفاوت الشعوب في حظها من الفكاهة أمر لا مُشَاحة فيه؛ وإنما الاعتراض على المبالغة في زعم التفوق الفكاهي على جميع الأمم.
نعم، إن بعض الشعوب الأفريقية والسلافية -كما وجدتُ فيمن عرفته منهم على الأقل- تكاد تعدم حس الفكاهة المصري، أو لنقل تعدم هذا الإفراط المصري في حس الفكاهة. لكن هذا لا يغرينا بالقفز إلى استنتاج إلى أن المصريين أطرف شعوب الأرض.
ونفي زعامة المصريين في الفكاهة ليس لتساوي حظ جميع الشعوب فيها -كما ذهب العقاد؛ ولكن لأن هذا الزعم يقتضي معيارًا للفكاهة -وهو ما لم ينجح فيه أي فيلسوف منذ عهد أرسطو؛ فإن ما يعده بعض الناس فكاهة يراه آخرون صفاقة- ثم إنه يلزمه دراسة نفسية اجتماعية مقارنة لجميع شعوب العالم حتى نقف منها على أن الشعب المصري هو أظرفها فعلًا.
ولقد جمع عالم النفس البريطاني ريتشارد وايزمان، منذ بداية الألفية الثالثة نحو مليون ونصف المليون نكتة من سبعين دولة في العالم بمساعدة ثلاثمائة وخمسين ألف مساهم، والمحصلة أن أعلى معدلات للفكاهة كانت من نصيب الشعب الألماني! وهذه النتيجة في حد ذاتها نكتة!
معيار الفكاهة
وإنما المعيار الصحيح الذي نراه للبت في قضية فكاهة الشعوب، هو إحصاء الأفلام والتمثيليات الكوميدية المنتجة فيها قياسًا بغيرها من الفنون. فإننا عندئذٍ نرى عَيانًا قدر استغراق المصريين وشعوبنا الناطقة بالعربية في الفكاهة، فإن خامرك ريبٌ فيما نسوق، من استفحال وباء الكوميديا في بلادنا، حسْبك أن تنظر مثلًا إحصاء عدد الأفلام الكوميدية في مصر قياسًا بسواها من الأفلام، ثم قِسْ هذه النسبة مع نظيراتها في البلاد الأخرى. فإن الأفلام وعروض المسارح معيار أذواق الجماهير، لأن مبيعات تذاكر الدخول خير فيصل لتمثيل الميول.
في عام 2023م، على سبيل المثال، أُنتج في مصر اثنان وأربعون فيلمًا، منهم ثلاثون فيلمًا كوميديًا (بنسبة 71.4 بالمئة من مجموع الأفلام) واثنا عشر فيلمًا آخر موزعون بين الدراما والحركة والرعب والاستعراض الغنائي، (بنسبة 28.5 بالمئة). ولكي تدرك فداحة حصة الكوميديا في الفن السينمائي لدينا، حسْبك أن تعرف أن حصة الأفلام الكوميدية في أمريكا وكندا، على سبيل المثال، بلغت نسبتها في العام نفسه 12.6 بالمئة فقط!
ويتبدَّى من هذه المقايسة البسيطة أن استغراق المصريين في الفكاهة، سواء في إبداعها أو استهلاكها، يجاوز أي حد معقول، حتى بالنسبة إلى المحيط الناطق بالعربية؛ ففي استطلاع أجري عام 2018م قال 66 بالمئة من المصريين إنهم يفضلون الأفلام الكوميدية، ثم جاءت السعودية (حاضنة الجالية المصرية الكبرى) في المرتبة التالية مباشرة بنسبة 64 بالمئة، في حين كان متوسط تفضيل الأفلام الكوميدية في جميع بلدان الشرق الأوسط 56 بالمئة.
لكن السؤال: كيف نفسر كل هذه الكوميديا المصرية رغم أن المصريين يستقرون في ذيل قائمة أسعد الشعوب في العالم؟ فبحسب آخر إحصاءات مؤشر السعادة العالمي الصادر في عام 2024م تستقر مصر في المرتبة 127 من أصل 143 دولة، وفي العام السابق كانت أرض الكنانة في المرتبة 121 ضمن 137 دولة شملها التصنيف، في حين تتصدر السعودية في المرتبة 28 في المؤشر نفسه، وفي العام السابق كانت في المرتبة الثلاثين؛ إذًا الفكاهة في مصر ليست كمثلها في السعودية. والمصريون وإن كانوا أميل للظرف والفكاهة من الشعوب الإسكندنافية -باستثناء الدنماركيين المولعين بالهزل حتى في العمل- فإن هؤلاء أسعد من المصريين بما لا متسع فيه للمقايسة.
إذًا المصريون وإن كانوا يضحكون لكنهم غير سعداء، فهل يستمتعون بالضحك أم يستجيرون به؟ هل تصاب الأمم بضرب من التوعك النفسي – حتى أتفادى كلمة اكتئاب المثقلة بالشروط العلمية؟ هل ذيوع الكوميديا محاولة نفسية دفاعية للهروب من الكروب؟ أم سمة متأصلة وُرِّثت في كثير من المصريين؟ أهو ثمرة من ثمرات انحطاط الذوق بسبب تردي التعليم والثقافة؟ أم لأن الكوميديا أرخص الفنون تكلفة وأدرها كسبًا؟ والسؤال الأولى بالالتفات: هل المصريون واعون بحرصهم على التفكُّه، أم أنهم منساقون إليه بلا تنبُّه؟

الفكاهة المأساوية
أن يُخرج شعبٌ مهرجًا فهذه صدفة سعيدة، أما أن يكون شعبٌ جُلُّه من المهرجين فهذه مأساة. ليس السؤال أي الشعوب أفكه، ولكن السؤال الصحيح: لمَ احتاج المصريون للفكاهة؟ فالسعادة شيء والفكاهة شيء آخر. ومثلما يختلف الضحك عن الفكاهة؛ فليس كل ضحك ينمُّ عن فكاهة -فالدغدغة تُضْحِك دون فكاهة، واستنشاق غاز أكسيد النيتريك يثير الضحك دونما علاقة بالدعابة- فكذلك تنماز الفكاهة عن السرور.
والشعب المصري -كما سلفت الإشارة- رغم ولوعه بالكوميديا، لكنه يأتي في ذيل الأمم في مؤشر السعادة. فالفكاهة إن كانت تلزم المتعة لكنها لا تكفل السعادة؛ فإن مدمن المخدرات وإن أصاب من المتعة قدرًا لا يصيبه الأصحاء، لكن من يجرؤ على الزعم بأنه أسعد منهم حالًا؟ (ولهذا قال كانط إن متعة الجمال أشد من متعة الفكاهة) وهكذا شأن مدمني الكوميديا: ظرفاء بمقدار ما هم تعساء. والكوميديا التي لا غرض لها إلا إشاعة الضحك، واستحلاب هرمون الإندروفين حلبًا، لا تعدو أن تكون مخدرًا لا علاجًا؛ فالسعادة لا تُشترى بالدغدغة ولا بأسطوانة من غاز الضحك.
وما دام الضحك يفرز هرمون الإندروفين المضاد للألم -لهذا فإن للضحك مآرب علاجية- فإنْ أدمن المرء الفكاهة استدرارًا للضحك ومن ثم الإندروفين، أفلا يكون هذا من آيات آلامه؟ ويكون ضحكه صورة أخرى للبكاء؟ ألا يحق حينئذٍ أن نردد خلف نيتشه: إن الإنسان قد اخترع الضحك لأنه أشد من يحس بالألم! فكأنَّ إدامة الضحك وإدمانه ليس آية على السعادة، بل ربما هو محاولة للانفلات من الاكتئاب. ولا ننسى في هذا المقام أن فولتير حين قال إن السماء أفاءت علينا هبتين توازن بهما مشقَّات الحياة: الأمل والنوم – علَّق كانط على الجملة وأضاف «الضحك»!
والكآبة شائعة في نفوس أرباب الفكاهة ومن اتخذوا من الكوميديا حرفة شيوعًا يعز على التجاهل: كان مارك توين مصابًا باكتئاب شديد. وقال بديع خيري إن نجيب الريحاني كان «حزين الروح». وهذا شارلي شابلن صاحبه اليأس أكثر سني حياته، كما نقرأ في سيرته. وانتحار روبن ويليامز عام 2014م غير بعيد. وقصة اكتئاب جيم كاري أشهر من التنبيه عليها. بل بلغ الأمر بالممثل الكوميدي الإنجليزي، كينيث وليام أن قال: «إنني لا أزعم أنني إنسان سعيد قط، وكل الكوميديين الذين عرفتهم كانوا يعانون اكتئابًا شديدًا». ولسنا نرمي من ذلك إلى تلازم الاكتئاب بالفكاهة، فهذا عارض يحتاج لأكثر من بضعة أسماء منتقاة لإثباته، وإنما القصد أن الفكاهة لا تمنع أن يكون صاحبها يعاني الاكتئاب.
وهذا المقام يضيق عن استقصاء نظريات الفلاسفة والمفكرين في تفسير الضحك والفكاهة وربطه بالكبت والاكتئاب: من أمثال نظرية هربرت سبنسر في تفسير الضحك بتفريغ الطاقة العصبية، أو نظرية فرويد في التنفيس عن الكبت بالضحك، أو ما انتهى إليه برجسون من وظائف الضحك في «الضبط الاجتماعي» حين يكون استجابة دفاعية ضد شيء يهدد المجتمع أو يضر به، وهو ما قال به إميل دورْكَيم (دوركايم) حول دور النكت التأديبي ضد الخارجين على الجماعة، وقوله بأنها تدخل ضمن الحقائق الاجتماعية التي تتخطى قرارات الفرد ونوازعه. فضلًا عن نظريات سائر علماء الإنسان والتطور الذين حاولوا تفسير عارض الضحك ومنشئه، وهي مسائل قمينة بأن يستقل بها مقال آخر، حتى وإن تجاوز بعضها البحث العلمي الحديث.
وحسبنا في هذا الموضع الإشارة إلى بعض تأملات فرويد في الفكاهة (لا الضحك)، إذ جعلها من وسائل النفس الدفاعية في مواجهة الصعاب لتلافي الكَدَر، وهذه النتيجة -في رأينا- هي عمدة ما انتهت إليه الأبحاث الحديثة، التي أجراها علماء النفس المختصون في الدعابة، وكشطوا فيها اللحاء عن دور الفكاهة في علاج القلق والاكتئاب: مثل دراسات هربرت ليفكورت، ورود مارتن، حيث أماطا اللثام عن وظيفة الفكاهة في معالجة ضغوط الحياة وشدائدها؛ ونورمان فرانك ديكسون الذي خلص إلى أن الناس يستخدمون الفكاهة للتحايل على ما يهدد رخاءهم بتحويله إلى مضحكة؛ وباربرا فريدريكسون، التي نوَّهت إلى دور التفكه في تمريض القلق والاكتئاب والغضب وإحلال الطرب بدلًا منهم.

هيستيريا الكوميديا
ولما كان مدار الكلام ههنا على العلة في تلمس فن الكوميديا وإدمانه، حقَّ لنا الآن التمييز بين الشعوب السعيدة والشعوب الفَكِهَة أو بالأحرى «المستجيرة بالفكاهة». الشعوب التي تفزع إلى الفكاهة هروبًا من القلق وتنفيسًا للغضب وعلاجًا للاكتئاب. فربما ما يسري على الأشخاص يسير على الشعوب، فما الشعب في المنتهى إلا حاصل مجموع أفراده. وإذا كانت الهستيريا التي تصيب الفرد تصيب الجماعة أيضًا، فماذا يمنع أن يكون الاكتئاب الذي يصيب المرء يصيب الشعب؟ ويكون استخدام الفكاهة لدرء القلق والتملص من الأعباء وترويض المخاطر، يجري هو نفسه على الجماهير؟ فيكون إدمان الكوميديا حينئذٍ ضربًا من العدوى الهستيرية الخبيثة.
إن رواج فن الكوميديا في مصر ليس بدعًا بين الأمم، فقد عرفت أوروبا وأمريكا هذا العارض الاجتماعي في أوقات العسرة والاضمحلال. وقد لاحظ الناقد الأمريكي برتون راسكو، أن انحطاط مسرح أريستوفانِس الكوميدي إلى المهازل والتهريج والنكات البذيئة جاء إثر انهيار ديمقراطية أثينا وقيام حكم الأقلية (الأوليجاركية).
وبعد أن وضعت الحرب الكونية الثانية أوزارها، تهافت جمهور المسارح على المسرحيات الكوميدية، لا سيما الهابطة منها، مثل مسرحيات الكاتب المسرحي البريطاني نويل كوارد. وقد انتبه الكاتب المسرحي المجري لايوس إيجري (ت 1967م) -ببصيرة الناقد- إلى إقبال الجمهور الأوروبي على مثل هذه المهازل الإقبال الشديد؛ وعزاه إلى أن هذه الفكاهات كانت تنسي الشعب دوي القنابل وفظائع الحرب التي دارت رحاها على أرضه.
وربما عرفت الولايات المتحدة هذا الرواج الوبائي للكوميديا -لا سيما الرديئة- إبان الحرب الأهلية وبعيد الكساد العظيم، ويجب أن نلاحظ أن الرواج منقطع النظير الذي لاقته مسرحية آن نيكولْس (ت 1966 م) الكوميدية المسماة «وردة آبي الأيرلندية» في مسارح أمريكا، إنما جاء بعد «الكساد المنسي» في مطلع العشرينيات، وأن هذا العارض سبق أن شهدته أمريكا، بُعَيْد الحرب الكونية الأولى وإثر وباء الأنفلونزا الإسبانية، مع مسرحية «البرق» التي ألفها وينشل سميث وفرانك بيكن.
وفي العصر الراهن نجد الكوميديا الأمريكية والكندية قد بلغت إحدى ذراها خلال العقدين الأخيرين إبان الأزمة المالية عام 2008م عندما استحوذت على خُمْس الأفلام (20 بالمئة) المنتجة في ذلك العام ولم تتجاوزها إلا في عام غزو العراق (2003م) حينما بلغت (21.4 بالمئة). هذه الأمثلة، وإن كانت غيض من فيض، لا تجزم بتلازم انتشار الكوميديا بفترات الانحطاط والعثرات أيضًا، لكن الغرض منها التنبيه على ترجيح ظهور هذا النمط، ولفت النظر إليه.
لا بد أن نلاحظ أن العصر الذهبي للنكتة المصرية ربما بدأ بُعَيْد هزيمة يونيو 1967 المريرة، بكل ما فيها من خزي وفضيحة، وأن هذا التلازم بين إفشاء النكت والكآبة العامة ربما لم يكن اعتباطًا؛ النكتة هنا لم تكن مقاومة ناعمة لبطش السلطة واستفرادها بالحكم، بل كانت شعورًا مريرًا بالعدمية المطلقة، كانت ضحكة يائس أكثر منها ضحكة حاقد. هذه العدمية نفسها قد عادت للظهور من جديد. هل شعرتم بها؟

مرض الضحك
والفكاهة ضاربة في مصر بجذورها، وكلما تصفحت أضابير التاريخ، وتوغلت فيه وجدت لها أثرًا: منذ رواج السينما الكوميدية في مصر الملكية، والصحافة الساخرة إبان الحقبة الخديوية مثل: «أبو نظارة» التي كانت من أكثر الصحف السيارة نَفَاقًا بين عموم المثقفين، ومقهى «المضحكخانة»، وهو منتدى جميع المضحكين والكوميديين ومن اتخذوا من الفكاهة حرفة، وعلى رأسهم حسن الآلاتي، وربما كان هذا المنتدى المصري العجيب أول مسرح للمونولوج الكوميدي في التاريخ.
وقد لاحظ المستشرق الإنجليزي، ستانلي لين بول، بعد عامين من احتلال بريطانيا بلاد النيل، أن حرافيش مصر يضحكون من القراقوز حتى تؤلمهم جُنُوبهم، فهم يضحكون على أي شيء وكل شيء يصادفونه، ويضحكون أينما رحلوا وحلوا، ومهما كانت همومهم وفقرهم. وقال: «الشعب المصري سهل الانبساط سريعه، حتى أن أبسط الإشارات وأبذل الفكاهات قادرة على إبهاجه، وهو كفيل بأن يجعل أي أوروبي صعب المراس يأسف لتفريطه في دماثته، عندما يرى هؤلاء القوم البسطاء كيف يسعدون أنفسهم بأبسط الأسباب».
وإذا عدنا إلى الوراء أكثر، وجدنا في العصر العثماني من الكتب والأشعار قرائن على ما تمتع به المصريون من هزل، مثل طُرَف يوسف بن محمد الشربيني صاحب هز القحوف. وإذا رجعنا إلى العصر المملوكي ألفينا أشعار وأزجال ابن سودون اليشبغاوي التركي المتمصر صاحب نزهة النفوس ومضحك العبوس، وهو من أئمة هذا الباب، وله قطع غاية في الظرف وحسن الدعابة.
ولدينا قرائن تاريخية عديدة أيضًا لهذا العارض في الفكاهة المصرية، وعندنا من الشهادات التاريخية الموغلة في القدم التي تجعلنا نعزو انتشار الكوميديا الوبائي لضرب من التوعك النفسي والمرض الاجتماعي، منذ أن ذكر المقريزي في العصر المملوكي أن من أخلاق أهل مصر: «الإمعان في الملاذ وكثرة الاستهتار وعدم المبالاة». مرددًا قول شيخه ابن خلدون: «أهل مصر كأنما فرغوا من الحساب».
وهذا العارض النفسي الاجتماعي، الذي التفت إليه ابن خلدون والمقريزي، سبق أن لاحظه المتنبي في العصر العباسي، عندما زار مصر الإخشيدية، وأوجز في بيته الخالد نوع الفكاهة المصرية ببصيرة عالم نفس قبل ألف سنة، حينما قال:
وكم ذا بمصر من المضحكات /// ولكنـــــــه ضحــــــك كالبكـــا
وربما إذا حفرنا في التاريخ أكثر، حتى العصور القديمة، عرفنا أن المصريين بلغوا من الولوع بالفكاهة أنهم عرفوا إلهًا للضحك والمساخر هو الإله «بِس». لكن هذا لا يعني إقرارنا أن الشعب المصري الآن هو نفسه على ممر العصور، فليست الدعابة مما ينتقل بالوراثة؛ ولكن لما تشابهت الظروف تكررت العوارض. فإن في المصريين ميل لتحويل الشقاء إلى نكتة – هذه هي فلسفة المصريين العدمية.
إنْ كان شَرُّ البَليّة ما يضحك، فإنَّ شرَّ الضحك ما كان عن بلاء، فإنَّ من الضحك ما هو وباء. وإننا لنجد، بما لا تعمى عنه عين، ولا تصم دونه أذن، أن إدمان الضحك ومعاقرة الفكاهة قد جعلا أرض الكنانة أقرب ما تكون لسيرك عملاق أو قاعة مسرح كبرى، تدور فيها فقرة كوميدية واحدة، لا تفتأ تُعاد وتكرر بألف شكل ولون، وسط عاصفة رملية من التصفيق الحار، وجمهور غارق في ضحكٍ موصول، في هيئة أشبه بوباء الهيستيريا الجماعية الذي أصاب تنجانيقا (تنزانيا حاليًا) في 30 يناير 1962م، وانتشر كالنار في الهشيم، واستمر حتى ستة عشر يومًا متتاليًا. يقول الإنجليز: «لو كان الجنون مرضًا يؤلم لسمعت الصراخ من كل بيت»! قلتُ: بيد أن الجنون مرضًا يُضحِك في الأساس – وإن مصر في نوبة ضحك هيستيرية منذ أكثر من ألف عام!