تشريح الفشل.. لماذا يفشل الإنسان؟
كتب محمد وهبة:
يظن الإنسان أنه يفشل حين يخشى الفشل، وهذا صحيح في بعض الوجوه؛ لكنك إن حفرت عميقاً بمعاول طويلة، وجدت الإنسان في حقيقة أمره لا يخشى الفشل نفسه، بل يشفق من فضيحة المحاولة.
ولمَ يتخوّف من المحاولة؟ لأنه يستحي من أن يكون عادياً، إنه يريد أن يبدو أمام الناس أعجوبة، ولا يحب أن يكون منظوراً في مراحل النشوء والتكوين، إنه يرغب بلوغ التمام دون المرور على صراط التجربة. ويطلب التميز مجاناً، بلا تجشم مؤنة الخطأ، أو تجرع مضاضة النقد. هو شديد الاستحياء من عيون الناظرين، لأنه لا يطيق اختبار صورته المثالية عن نفسه، أو وضعها موضع التجربة على الملأ.
إن الفشل (أو الهروب من اتخاذ أسباب النجاح) هو ضرب من الانسحاب التكتيكي الذي يلجأ له الإنسان صيانةً لكبريائه وصورته عن نفسه أمام غيره من الناس. ما أنفذ بصيرة أدلر حين قال: “الأسوياء هم الذين لا تعرفهم حق المعرفة”! أي أنك إذا اقتربت منهم، وحدقت فيهم، وفحصتهم وجهاً على ظهر، وجدت فنوناً من عقد النقص والضعف، التي يحاولون سترها بغلالة محبوكة من التصنع. لهذا قد يؤثر الإنسان الخمول الساتر للفضيحة على المحاولة المعرضة للانتقاد.
إن الخجل (وهو من أقانيم الجُبْن) هو ما يتكاءد الإنسان عن بلوغ العظمة. الخجل لا ضعف الهمة هو الشرط الضروري الكافي للاستخذاء ورُهاب التفوق. لهذا فالجرأة هي الصفة الغالبة بين جميع المتميزين.
والحق أن أغمار الناس لا يشفقون من التميز لأنهم كسالى؛ بل هم كسالى لأنهم يشفقون من التميز – لأنهم يخجلون من سلوكه، ولا يطيقون أن يكونوا تحت النظر والملاحظة، نهباً للعيون ورهن أحكام الناس. إن الهلع الذي يئد طموح الإنسان ليس هلع السقوط، بل هلع السقوط على مرأى الآخرين. لهذا أوحى الشيطان لسارتر ذات مساء، وقال: “الجحيم هو الآخرون”.
وهذا العارض يسميه علماء النفس المحدثون “وسواس صورة النفس” (self-presentational concern) أي شفقة الإنسان من أن يراه الناس على حال لا تسره وهو يحاول ويفشل، فيقضون عليه بعدم الكفاءة. من أجل هذا يرتعب المرء من الزلل على رؤوس الأشهاد، في حين لا يحفل بالإخفاق إن كان مستوراً عن طائلة العيون. لا يكون النجاح مخيفاً إن أمكن بلوغه سراً، بين الجدران الصماء.
لا بد أن نتذكر أن كيركجور، الكئيب من ضباب الدنمارك، قال ذات مرة: “متى صنفتني لم تنصفني” (once you label me, you negate me) أي أنك إنْ حكمت عليّ حكماً، واختصرتني في نعت، كأنك سلبت هويتي، وحصرتني في صورتك عني، ونفيت عني الأصالة. وهذا والله أبلغ ما قيل في هذا الداء العياء، ورهبة المرء من أحكام الناس عليه، وارتهانه بظنونهم به وتقديرهم إياه، وغيرها من الأوهام التي تخامر الإنسان، وتحول بينه وبين إنجاز أمانيه.
فإن مثل هذا الإنسان رقيق الحاشية والبشرة، إنما يتهيب رأي الناس فيه تهيُّب الطفل من ذل التوبيخ. وهذا علة حرص بعض الناس على إخفاء أهدافهم، والتعمية على مطامحهم، وإشفاقهم من خوض سبل البروز، وإعراضهم عن المحاولة، ووقوعهم في مهاوي التسويف، فيماطلون الحياة حتى تعاجلهم المنية.
لماذا قال الخطيب البغدادي: “من صنّف [كتاباً] فقد جعل عقله على طبق يعرضه على الناس”؟ لولا معاناته هذا الهاجس.
ولمَ قال الجاحظ، فيما نسبه البلوي إليه: “لا يزال المرء في فُسحة من عقله ما لم يصنع كتاباً يعرض فيه على الناس مكنون فضله ويُتصفح فيه إن أخطأ مبلغ عقله”؟ إن لم يكن كابد هذا القلق المرير. حتى البلوي نفسه أقرّ الجاحظ، وقال: “صَدَق لأنه يُقال: من امتحن قولاً ظهر على عيبه ومن طلب عيباً وجده”. هذه هي إذاً السوسة التي تأكل نفوس المرضى بالتواني: الحياء.
والإنسان متى أولع بالكمال، كان وسواسه أعظم، وبليته في نفسه أدهى، وغلب إحجامُه إقدامَه. ومن كان هذا نعته، كان ضحية -ما يسميه علم النفس- “متلازمة المحتال” (imposter syndrome) أي أنه يجمع سقوطه في عين نفسه إلى جزعه من سقوطه في عيون الناس، حتى يكفر بذاته وملكاته، ويُضمر في روحه شعوراً يلازمه بالزيف والغش والتكلف، فلا يجد نفسه مستحقاً لأي امتياز وتقدير، فيُقعده هذا الوهم عن ارتقاء المعالي.
الخجل الباعث على الخوف والشك والتردد مؤذن بالفشل قبل شرف المحاولة. هو تضحية بإصابة مرجَّحَة بسبب عثرة على ذمة الاحتمال. هذا التهيب يهدر ألوفاً من عباقرة البشرية على مر العصور.
فكم من فنان أهمل لوحاته قبل أن يتمها! وكم من أديب قطع أوراقه قبل نشرها! وكم من موسيقي أتلف نوتاته قبل ذيوعها! وكم من عالم مضى قبل أن يستكمل بحثه! وكم من مفكر مات بأفكاره في رأسه! وكم من تاجر أو مستثمر أتلف حياته قبل إنجاز مشروعه! كم من كامل لم يتم، وكم نابغ لم يكن! كم من إنسان سقط جنيناً من رحم أمه، قبل أن يلقى العالم بصرخة مجلجلة! ما أكثر الذين يموتون قبل الأوان!