al-kunnasha.com
  • الرئيسية
  • فلسفة
  • ترجمة
  • ملف العدد
  • عن الكناشة
  • تواصل معنا
RSS
Untitled design (1)

وباء مصري اسمه الكوميديا

كتب – محمد وهبة:

الكوميديا كوكايين التعساء. وإن كان التعساء لا يضحكون، وإنما يضحك الذين ألمَّ بهم طرفٌ من التعاسة، لم يبلغ من الشدة أن يمنعهم من التهيؤ للسرور. والكوميديا كانت وما زالت أهون الطرق للحصول على جَرْعةٍ من الضحك – المخدر الأفيوني لتكاليف الحياة. وإدمان الكوميديا، كإدمان السكر؛ أرخص وسيلة لشراء السعادة الزائفة، والسرور الرديء، والبهجة العابرة التي لا تدوم، وتترك في النفس آثارًا من القلق، مثل ندوب الجدري. وهكذا فإن التماس الفكاهة، واللهث وراء الدعابة، وتحرِّي المضاحك في كل مشتقاتها، قد يكون عَرَضًا من أعراض الكُرُوب.

وإنني ههنا لا أشجب الضحك والفكاهة بالجُملة، مثل الفلاسفة: أفلاطون وتوماس هوبز وديفيد هارتلي، والقديسين: بولس وجيروم وباسيل ويوحنا ذهبي الفم، والشاعر توركواتو تاسّو، والناقد جون دنيس، وغالب أنبياء الشرق الأوسط. فإننا نعلم من علم النفس التطوري أن الضحك والفكاهة من أسلحة البقاء؛ فالظُرْف مثل الصحة والوسامة والثراء، من أسباب الاصطفاء الجنسي. ولطالما كانت النكتة من أساليب إغواء النساء؛ وهكذا فإن القبحاء الظرفاء لا يعدمون بعض الوسامة في وجه من الوجوه.

والفكاهة فضلًا عن كونها ضربًا من رأس المال البشري، فهي من وسائل الدفاع النفسية؛ إن الابتسامة أقدم بروتوكول دبلوماسي اصطلح عليه البشر. ناهيك من مزاياها الاجتماعية، وفوائدها في إنجاح التواصل الفعال، وتخفيف التوتر في المواقف العصيبة. قالت جانيت جبسون، عالمة النفس الأمريكية: إن الفكاهة فازلين اجتماعي في بعض الوجوه!

[الحق أن البروفيسور جانيت لم تذكر «الفازلين» تحديدًا، بل قالت إن الفكاهة «مزلِّق» اجتماعي] لكني، رغم كل هذا، لستُ أتحرَّج من تنبيهك -يا عزيزي القارئ- من إساءة استعمال هذا الفازلين: حذار أن تستحيل خفة دمك إلى خفة ذهنك! فإنما الفكاهة إذا زادت عن الحد ارتدَّت للنقيض، واستحال الضحك من وسيلة آمنة لتهوين الضغوط إلى ضرب من الأفيون النفسي، الذي ينقلب على مدمنه وبالًا، عندما يتصيَّر من عَرَض طبيعي إلى هدف مصطنع غير مأمون العقبى.

إن الضحك مثل الجلوكوز، الذي لا تُطاق الحياة بدونه ولا تستقيم بالإفراط منه؛ فكما يكون نافعًا بالمقدار الضئيل في الغذاء الطبيعي، فإنه وخيم المضرة إذا زاد عن الحد مثل السكر المكرر في مختلف صنوف الحلوى. والكوميديا أشبه ما تكون بالحلوى: لذيذة الطعم لكنها مريرة الضرر. إنني في هذا المقام أدين الإدمان القومي للكوميديا، واستفحال الفكاهة على نفقة كل قيمة.

إبكتاتوس
إبكتاتوس
البقاء للأظرف

في يوم ما قال أرسطو: «يلتذُّ أكثر الناس بالدعابة والمزاح أكثر مما يجوز لهم». وكانت وصية إبكتاتوس بالاقتصاد من الفكاهة، حين قال: «لا تجعلنَّ ضحكك قهقهة؛ لا تكثرنَّ منه، ولا تُغرقنَّ فيه». ولقد عرف كبار الأدباء والفلاسفة قوة الفكاهة السحرية، غير أنهم أجادوا استخدامها بالقدر المضبوط، الذي لا يفسد الطبيخ ويكون لذة للآكلين.

إن من عشقوا ثربانتس، وستندال، وجوجول، وبودلير، وديكنز، وفيكتور إيجو، وأوسكار وايلد، وتشيخوف، وكافكا، وإديث وارتون، وجورج أورويل، وألبير كامي، ومارون عبود، وبيرم التونسي، وتوفيق الحكيم، وغارثيا ماركيث، وماريو يوسا، وهاروكي موراكامي، بل ومدمن الكوكايين سلافوي جيجيك، إلخ ممن سلك مسلكهم – لم يلتفتوا إلى السخرية المدسوسة بذكاء في آدابهم والجارية على ألسنهم وأقلامهم، وكانت من أسرار رواجهم.

حتى كانط، هذا الأكاديمي البارد مثل ثلاجة جثث، لم تخلُ محاضراته من طرافة لذيذة، ناهيك من برتراند رَسِل هذا المنطيق الصارم مثل آلة حاسبة، لكنه كان -رغم هذا- ساخرًا ساحرًا، يعرف كيف يَبِيضُ المزحة، في أكثر مقالاته جديَّة. بل إن أفلاطون نفسه، الذي حرَّم الضحك على البشر، إنما كان يدُسُّ الدعابة الماكرة في أدبه الفلسفي دسًا! يا إله السماوات! حتى شوبنهاور المتشائم، المتأرجح بين الملل والألم، إنما كان يتلظَّى بسخرية شيطانية مجلجلة. إنني أقول: إن قدْرًا لا يُستهان به من سِحْر نيتشه يكمن في البهارات الفكاهية التي تفوح من لغته.

ولم يكن القسط المعتدل من الفكاهة سببًا لصيت تلك الثلة فحسب، بل وكان من أسباب إصابة غيرهم الثروة ونجاة بعضهم من الموت ودخول آخرين نادي الخلود من أطرف أبوابه! وقد كان الأصمعي يقول: «بالعلم وُصِلْنَا وبالمُلَح نلنا» أي نلنا الجوائز من الخلفاء والأمراء. ولولا دعابة الجاحظ وما سال به قلمه من فكاهة، لما بقي هذا القدر الكبير من كتبه ورسائله. فالدعابة المنثورة في آدابه وآداب: المبرَّد، وأبي الفرج الأصفهاني، وأبي حيان التوحيدي، وأبي منصور الثعالبي، والحصري القيرواني، والراغب الأصفهاني، وابن حِجَّة الحموي، وأئمة هذا الطراز – كانت خير نفثالين حفظ مخطوطاتهم على ممر القرون.

ولقد دان بعض العظماء الظرفاء للفكاهة بحياتهم؛ فلولا فكاهة الجاحظ لجُزَّت رأسه جزًا بسبب اعتزاله، ورغم أن فولتير عاش طريدًا شريدًا، لكن ظرفه ربما كان ممن أنقذه من براثن العوام الذين رجموا بيت روسو بالحجارة، وكادوا ينحرون سبينوزا مثل أضحية العيد. ودُونَك إراسموس صاحب «مديح الحماقة»، الذي سخر فيه من البابا أدريان السادس في أوج عصر محاكم التفتيش وتحريق الهراطقة، لكن فكاهته كانت طوق نجاته بل وتشريفه وإجلاله في كل أصقاع أوروبا؛ إذ لم يملك خليفة القديس بطرس إلا أن يعجب بالكتاب الذي يستهزئ به هو نفسه! نتعلم من ذلك أن الفكاهة تغفر ما لا يغفره المنطق السليم.

ستيفن بنكر
ستيفن بنكر
وباء الفكاهة

لقد عرفنا من عالم النفس الكندي ستيفن بينكر أننا نعيش الآن أزهى عصور السلام في التاريخ، ويبدو أننا بالمقدار نفسه نعيش أضحك القرون أيضًا؛ إذ يخبرنا بعض علماء الأجناس البشرية بتأييد نفر من المؤرخين وفقهاء الفنون أننا نضحك الآن أكثر من آبائنا، وآباؤنا ضحكوا أكثر من أجدادنا، وأجدادنا ضحكوا أكثر من أسلافهم، وهلم جرًا. أي أن الإنسان كلما تأخر في التاريخ اتسعت ابتسامته واشتد ضحكه. وظاهر الأمر أن الكوميديا مثل الإنتروبيا: في تفشٍ مطرد.

وانتشار الكوميديا رغم اطراده لكنه ليس بالدرجة نفسها في جميع الأمم، فإن بعض الأمم تضحك دون أن يطغى ضحكها على جِدِّها، وبعضها الآخر تلهو وتلهى، والحياة عندها ليست إلا نكت في نكت. والآن، انظر حولك، يا زميلي في اللسان العربي، فما أكثر الضحك والضاحكين، حيثما وليت وجهك، فثمَّ فكاهي في شاشة من الشاشات.

في السينما أشهر الممثلين طرًا هم أهل الفكاهة، وأروج الأفلام والمسرحيات هي الكوميدية، وفي البرامج الحوارية، التي يُفترض فيها الجد، تجد أن أظرف المذيعين وأطرفهم أشهرهم وأغلاهم أجرًا؛ بل حتى في شؤون الدين، صار رجل الدين البهلوان المنفلت اللسان أروج الشيوخ بين الناس -لا حاجة لذكر اسمه، فأنت على الأغلب تعرفه؛ من نكاتهم تعرفونهم- حتى الكاتب السياسي والمثقف المشهور (حتى أتفادى وصفه بـ «المثقف الشعبي» لأنها مفارقة مؤلمة) ستجده عضوًا في نقابة الساخرين. بل وبين المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي، ومقدمي المحتوى فيها، تجد أن أشهرهم أظرفهم. وعلى رأسهم مقدمو المحتوى الثقافي على منصة يوتيوب، الذين أكثر ما يلجؤون للتظارف -الذي لا ينجو من التهريج- لحصد ملايين المشاهدات!

أي قاع هذا! هل وصلنا لدرجة من إدمان الفكاهة حتى أننا لا نتناول أي محتوى فني أو ثقافي إلا إذا كان متبَّلًا «بالـكوميديا»؟ هل صارت الكوميديا وصفة النجاح والذيوع لأي مضمون إعلامي أو علمي أو ثقافي! لقد صارت الجماهير الناطقة بالعربية عبيدًا لربة الكوميديا، ولا تعاف أنفسهم أن يكونوا مهرجين أو بهاليل. إذا لم يكن هذا وباء اجتماعي؟ فما هو الوباء يا أهل الذكاء؟!

إن هذا الطاعون الدُمّلي قد خرج من مصر -أقولها وأنا مصري الجنسية؛ فلا يماري منصفان في أن عدوى إدمان الفكاهة انتقلت من بلاد الأهرام إلى باقي بلدان المنطقة، بسبب اندياح الفن المصري وطغيانه على محيطه، ثم بفضل الجاليات المصرية. ولما كانت الكوميديا -مثل الضحك والتثاؤب- عدوى، فقد حدث أن خرج هذا المرض الاجتماعي من مصر وانتقلت جرثومته إلى الدول الناطقة بالعربية لا سيما دول مجلس التعاون الخليجي، وأخص من دوله السعودية (حاضنة أكبر جالية مصرية في العالم) أين انتعشت ظاهرة «الطقطقة»؛ فإن اللغة خير وسيط لنقل العدوى الثقافية!

لقد أدمن المصريون الكوميديا، لأسباب سنأتي على تفصيلها في غير مقام ومقال، وإدمان الكوميديا كما قلنا مثل إدمان السكر؛ وسيلة لتحضير المتعة السريعة، والحصول على نشوة وقتية، لكنها قد تؤدي إلى مضاعفات ذهنية خطيرة، سنوافيك بها في مقال آخر. والآن، انظر ودقق، ستجد الفن الوحيد الرائج في مصر الآن هو صناعة الفكاهة. حتى صارت الكوميديا وباءً بأتم معاني الكلمة. وهذا عَرَضٌ من أَعْراض انحطاط الذوق العام، فإن من آيات انحطاطه أن تطغى فيه الكوميديا على كل ما عداها من أجناس الفنون. لقد صارت الفكاهة مثل الكوليرا الزاحفة تهدد كل ذوق سليم. إن تصحرًا كوميديًا عاتيًا يجرف كل ما بين يديه من فنون راقية، وهو عَرَضٌ حقيق بأن نبسطه للفحص والتحقيق. فالكوميديا في مصر الآن مرضٌ وعدوى وإدمان.

سرطان الفنون

غني عن البيان للقارئ اللبيب أنني لا أنقد الفكاهة على إطلاقها، وإنما التثريب على إدمان الكوميديا والإمعان فيها على نفقة الفنون الأخرى، فههنا وجه المثلبة. فالضحك إن جاء عَرَضًا كان سائغًا لا غضاضة فيه، فحتى التراجيديا لا تخلو من بعض الترويح الفكاهي كما يعرف أهل الفن والاختصاص. وإنما الآفة في تحرِّي الفكاهة والمواظبة عليها، كأنه هروب إلى الأمام، وهو عارض يؤدي لانحسار مختلف الفنون أمام طغيان صناعة الكوميديا.

وحسْبك أن تنظر إلى إحصاء حصص الفنون الكوميدية عند الشعوب الأخرى لتقف على حجم المأساة. فلقد صارت الكوميديا لدينا وباءً مزمنًا -بأتم معاني الكلمة- يتهدد الفنون الأخرى بالإزاحة، ويسرطن حياة مدمنها بالسآمة، ويصيب عقله بالكلل. الكوميديا عندنا، يا حضرة القارئ، حلوى مفرطة السكر تؤدي لتسوس العقول وتخمة الأذهان. 

فاستيقظوا أيها المنتشين بالكوميديا، وأفيقوا يا مدمني الضحك والدغدغة، وانتبهوا يا كل آكلي الفكاهة، لقد صرتم من عبيد الدعابة؛ فإن النكتة التي لم تسخر منكم استطاعت تسخيركم!

كيف تتحول العقدة النفسية إلى عقيدة؟

كيف تتحول العقدة النفسية إلى عقيدة؟

Like 0
Liked Liked
احذر متلازمة بانغلوس

احذر متلازمة بانغلوس

Like 0
Liked Liked
الضحك العدواني.. كيف تصير العنصرية نكتة؟

الضحك العدواني.. كيف تصير العنصرية نكتة؟

Like 0
Liked Liked
Like 5
Liked Liked

↑

@ 2024 Al-Kunnasha. All rights reserved.
Powered by Al-Kunnasha