معضلة البروز.. لماذا ينجح التافهون؟
لقد تخيلتُ أيوبَ يصيح إلى يهوه القدير: «لماذا يا إلهي ينجح التافهون؟» لكنه صمت صمتة أبدية. ورأيت فيما يرى الذاهل بعض الرسل يكرر السؤال على مسمع من يسوع، فإذا به يجيب: «الحق أنهم هكذا استوفوا نصيبهم، وأمَّا أحباء الحق فبالحق استوفوا حقهم». وصوّر لي وهمي أبا ذر يسأل محمدًا: «يا رسول الله، قد ذهب التافهون بكل شيء!». وخُيِّل إليّ أنه أجاب: «هذا فضل الله يؤتيه من يشاء».
وخِلْتُ أفلاطون شيخًا في أكاديمياه، يجلس بين تلاميذه، وقد سأله بعضهم: «ما بال التافهين ينجحون، ويكاد النابهون يتكففون؟». فكأنه سكت ساعة ثم قال: «لأن النابهين بعضٌ من جمهور التافهين، أما التافهون فليسوا من مريدي النابهين، والبضاعة كلما زاد عليها الطلب نَفَقت وغلت». ومر بخاطري بوذا الحكيم يعلم السائلين: «السؤال عن نجاح التافهين، هو نفسه سؤال التافهين، فالنجاح سرابٌ من أوهام البشر».

استحقاق النجاح
وغني عن البيان أننا لا نزعم بنجاح كل التافهين، ولا نقول بفشل جميع النابهين؛ فلا كل النبهاء فاشلون ولا كل السفهاء ناجحون؛ فحتى التفاهة تحتاج إلى جهد وشيء من الذكاء للبروز – فالكلام ههنا ليس على وجه التعميم. وإنما المقصود من سؤال المقال، إن كان نجاح الموهوبين عن جدارة ذا وجه، فما بال نجاح التافهين ومعدومي الموهبة تأتيهم الدنيا عفوًا؟ لماذا يبرز التافهون ومن لا قيمة لهم، ويجنون من الصيت والمال «ما لا يستحقون»، ويعاني العلماء والعقلاء والألباء الغمر والعوز والإقصاء؟
ومما يُروى في هذا المعنى، أن معاوية بن أبي سفيان سأل حاشيته، في مجلسه مرة: «ما أعجب الأشياء؟» فأجاب كل منهم إجابة، وكان جواب الضحَّاك بن قيس الفهري أن أعجب الأشياء «إكداء العاقل، وحظ الجاهل». فهل وافق الضحاك الصواب؟ هذا الذي عليه مدار المقال.
والحق أن سؤال عنوان مقالنا وجواب الضحَّاك مغالِطان، ويصادران على المطلوب من وجهين: فكأنهما يزعمان أن التافهين ومعدومي الموهبة لا يستحقون النجاح، حتى وإن حققوا بعض شروطه في زمنهم وموطنهم؛ وثانيهما أنه يفترض للنجاح تعريفًا مضمرًا لا يتحقق إلا بالصيت والثروة، فكأنهما معيارا النجاح الأوحدان في الحياة!
وهاتان المقدمتان المضمرتان تنطويان على قصر نظر مع استعلاء لا وجه له، فكأننا نسلِّم للتافهين بمعيارهم للنجاح أو نجاريهم فيه، وكأننا نضمر أن وجه استحقاق النجاح لا يكون إلا في اكتناه الحقائق وتحصيل المعارف [لكن من يملك الحق في تعريف الحق؟] أما المتعة التي يجنيها الإنسان من التسلية والترفيه أو الخَدَر الديني الذي يشيعه فيه رجال الدين، فهي غير جديرة بأن تفيء على صانعيها أمجاد النجاح!
وهذا الرأي سليل الأوهام الشيوعية التي لم تتحرر من قاع هرم ماسلو؛ فالناس وإن كانت تذم نجاح التافهين لكنها لا تكاد تستغني عنهم قط؛ ليس كل الناس عباقرة، الناس لا يولدون سواسية. والحق أن التافهين يؤدون مهمة جليلة في دورة الاقتصاد؛ بما يخلقونه من آلاف الوظائف، وتدوير رؤوس الأموال في جميع أطراف الأسواق، كما يؤدون خدمة نفسية للتخفيف من أعباء الحضارة وتكاليف الحياة. إننا لا نكاد نرى تافهًا أصاب نجاحًا إلا وله وظيفة يؤديها في حياة القوم استحق عليها ثمرة نجاحه بينهم، حتى وإن تعافها أهل الفكر والنظر!
معيار النجاح
وقد مرَّ في كلامنا مصادرة على مطلوب آخر؛ فكأننا نفترض للنجاح معيارًا واحدًا يشمل السفهاء والألباء على السواء. فهل للنجاح مقياس واحد؟ إن هذا يستلزم استقصاء معيار النجاح والفشل أولًا، لأننا إن جعلنا معيار نجاح التافهين معيارًا لنجاح الراجحين وجدناهم فاشلين، مثلما إن جعلنا معيار نجاح العلماء معيارًا لنجاح الجهلاء ألفيناهم مخفقين. فكأن ميزان هؤلاء مباين لميزان أولئك. بل لكل ميزان نجاحه.
إن اشتراط النجاح بالثروة والصيت فقط قصر نظر؛ بل لا بد من رد النجاح إلى أصوله: السعادة، فهي أسمى غايات الإنسان في الحياة. وإنك لتلقى بعض الناس يجد سعادته في لذات الجسم، وبعضهم يتلقاها في لذات الدماغ. [كل اللذات دماغية قطعًا، والقارئ اللبيب يفطن للكناية المقصودة] وليس من حق أحد أن يفرض للنجاح تعريفًا بذاته على جميع الناس. [مرة أخرى، من يملك الحق في تحديد الحق؟].
النجاح بالجهل
وإذا اتفقنا أن الأصل في النجاح إصابة السعادة، وجدنا أن النجاح شُعَبٌ كثيرة، وانتهينا إلى أن نجاح التافهين مختلف باختلافهم: فهناك النجاح بفضل البيئة الجاهلة؛ فالمعتوهون في المدن الحضرية يودعون في المصحات النفسية أو يعاملون معاملة الأطفال، في حين إذا وُجِدوا في القرى الراسخة في طين الجهالة ارتفعوا إلى مرتبة أنصاف الملائكة وصاروا مصدر البركة والقداسة، وربما وصلوا إلى كرسي الرئاسة. والقاعدة: كلما انحطت الأمة استأثر السفهاء فيها على النجاح من أيدي النبغاء.
إن الأنبياء الذين ظهروا في عواصم العصر الحديث لم يؤمن بهم أحد. فلا غرابة أن يصير العور ملوكًا في قرى العميان. لهذا فالنجاح في المجتمع المنحط ليس دليلًا على النبوغ بل إنه آية على الانحطاط؛ فلولا توفر بعض شروط الانحطاط فيه لما أعجبَ الناجحُ جمهورَ المنحطين. إنها لإساءة بالغة لقيمة المرء أن يكون محبوبًا من الرعاع. فالشهرة ليست إلا النُقُوط الذي تجود به الجماهير الجاهلة على القراقوزات التي تسلي كآبة حياتها، وتدفع بها أيامها التعيسة، وتمنعها من ألم التفكير في المصير.
إن كل جمهور يستحق مشهوره، وكل مشهور يستحق جمهوره؛ فالمشاهير على دين الجماهير.

النجاح بالترفيه
والحق أن وسائل التواصل الاجتماعي، قد لبت هذا الغرض لدى جمهور الناس، وفتحت لهم الفرص على مصراعيها للتسلية والترفيه، فبرز الذين يحترفون هذا المحتوى. وهذا هو السبب في مرادفة التفاهة بالنجاح. فالأولى أن نقول: لماذا ينجح أهل التسلية وصناع الترفيه؟ إنهم بائعو الحلوى في حضانة الأطفال.
قد جاء في محاورة جورجياس لأفلاطون: هلك الطبيب إذا اختصم صانع الحلوى واحتكما إلى الأطفال، أو مَنْ هم في حمقهم من الرجال! فلا غرابة أن نجد بعض الدعاة الجدد والمطربين والممثلين أبرز من كثير من العلماء والفلاسفة وأهل القلم والكتابة؛ فالنمط الأول يحقن الناس بمخدرات السعادة والطمأنينة، وأما الثاني فيحرِّضهم على الفكر والتأمل. والدماغ البشري أميل للراحة والاستجمام، لا التفكير الذي يستنفد الطاقة، ويبعث على الاكتئاب. ولذلك فإن ربط النجاح بالتفاهة غير دقيق، وإنما عزوه للترفيه أصح وأولى.
وثمة نجاح بفضل الفضيحة، وهو ما يسميه الفرنسيون Succès de scandale وهو ضرب طريف من الشهرة يؤدَّى إليها من باب الوصمة. وهذا بابٌ يحذقه أهل التواصل الاجتماعي اليوم حذقًا يكاد يخرجهم من العقل إلى الجنون، فإن كثيرًا منهم لا يرعوي عن التهريج، وأن يحول نفسه أو أهله إلى أضحوكة، من أجل حصد الانتباه والمشاهدات، التي تتحول بفضل الإعلانات إلى دولارات.
ونذكر في هذا المعنى ما حكاه لنا أستاذنا الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم (أبو همام) -وكان من تلاميذ عباس العقاد الأوفياء- عما دار بين الفنان الكوميدي محمود شكوكو والعقاد في صالونه، إذ قال الأول إنه لو سار مع هذا الأديب في الشارع، لعرف الناس شكوكو وأنكروا العقاد، فسكت العقاد ثم قال له: لو سار شكوكو ومعه أمه عارية، لأشار الناس إلى أمه دونه!
والحق أن الناس الآن لا يستنكفون التعري بالمعنى الدقيق للكلمة على الشبكة الدولية، لحصد الانتباه والمشاهدات والدولارات. وهذا الضرب الشائه من النجاح، حفيد نوع قديم من الفضيحة الفنية الكافلة للبروز، فقد سبق إليه كُتَّابُ السير الذاتية الفاضحة، والأدب المكشوف، ونقباء مدرسة الفن للفن والدادية، وغيرهم ومن دخل في نمطهم، وما أكثرهم في زمننا هذا. وهذا عارض لا نملك الحق في شجبه، وإن كان نهجًا يتنحى عنه العقلاء، ويمتنع منه أهل النُهى.
لماذا يبرز التافهون؟ لأنهم يحترفون الترفيه للحمقى والكسالى والبائسين والمكتئبين، بل ولأمة كبيرة من العلماء والعاملين الذين يلتمسون استراحة محارب، أو استجمام مكروب. وليس البؤساء وحدهم جمهور التافهين، بل ثمة تفاهة ناجحة من نوع آخر، وهي التفاهة التي تنجح بفضل الرفاهية، وهذا الضرب شائعٌ في البلاد الغنية ذات الدخول المرتفعة، أو الأوطان التي بلغت درجة عالية من الرفاه؛ فالناس فيها قد تقدم على التفاهة عمدًا لقتل الملل، بعدما تحققت كل حاجاتها الحيوية والمعنوية. [وههنا يلوح لنا ماسلو بيديه مرة أخرى]. إن الجنة بهذا القياس قمينة بأن تكون ملهًى فيه من الألعاب بمقدار عدد سنين الأبدية، وإلا انفطر الصالحون مللًا.
بل إنني أتجاوز إلى القول: إن من معايير نهضة أي أمة نسبة التفاهة الترفيهية فيها، لأنه لا ينشغل بالتفاهات إلا مجتمع أصاب من الرفاه قدرًا عظيمًا، بعد أن حقق فائضًا من الثروة كفل له فرصة التنعم والفراغ، أما الأمم الغاطسة في لجج من الفقر، فليس لديها بحبوحة رواج التفاهة إلا بالمقدار الذي تحاول به أن تنسى شقاءها.
إن الإغريق والرومان لم يبدعوا ما أبدعوه من أعاجيب لولا جيش من العبيد تحت أقدامهم، أعفاهم مشقة العمل؛ ومن قبلهم سكان بلاد الرافدين والصين والمصريون القدماء، الذين لولا فائض الإنتاج لما أتيح لهم فسحة من الوقت لبناء هذه الحضارات المذهلة، وما شملته من تفاهات مدنية: كالطقوس والصروح التي لا كبير «منفعة» منها؛ إن الفنون أنتجها الفارغون، وحتى التفاهة منازل ودرجات، وجميع الفنون لا تخلو من تفاهة – فإنما التفاهة من عواقب الازدهار.

النجاح بالتهور
ودونك نجاح آخر بفضل الغباء، والغباء يزين للإنسان الإقدام على مطامح يتريث دونها الحصفاء؛ فيزيد التافهون به معدل حظوظهم في النجاح. لأن المترددون -وأكثرهم من العقلاء- يعيشون بأسطورة لا تفارق أذهانهم، فحواها أن النجاح يكون بدراسة دقيقة تحيط بأسبابه، فيقعدهم التفكير المتأني عن المحاولة، لكن السفهاء لا يتلبثون كثيرًا قبل خوض الصعاب، واقتحام المجهول، وركوب الأهوال، فيفوزون بالسبق. ولعل أول درس قد تتعلمه في رياضة الجولف أن التردد قبل ضرب الكرة كفيل بإشواء حفرتها.
وإن من الفوارق بين الإنسان التافه والرصين، أن الأول سريع التأثر شديد التعصب، يطيح مع كل ريح، كلما برقت له فكرة اعتنقها، وإذا مر به خاطر صدقه، يؤمن أكبر مما يعرف، ويعرف أكثر مما يشك، لا يطيق البحث ولا يصبر على التحري، لذاك يكون أجرأ على اهتبال الفرص متى سنحت؛ أما الراجح الرزين فأكثر ما يشك ويغربل وينقح، لا يجد غضاضة في تغيير رأي أو تبديل قصد أو عدول عن عزيمة. الإنسان الرزين – يا ويله- يُفْرٍط في اعتبار العواقب. وغني عن الإبانة ما في الطريق الثانية من تعب وكلفة وتضييع وإفراط؛ فالمرء إذا غلب على طبعه الشك والحذر، أدار ظهره للمخاطر والمعالي وأسباب المجد من الأعمال الجليلة، فيبقى نكرة على الدوام. لهذا قد يؤثر الناس التفاهة الناجزة، إن كانت أضمن لمدارك الفلاح.
على أن شرط النجاح أبسط من هذا وأبذل، ويسير بقانون بسيط: المحاولة والخطأ ثم المحاولة مرة أخرى. إن الإسكندر لولا بعض الغباء (الذي يسمى في طور الشباب طيشًا) ما كان ليقدم على غزو الإمبراطورية الفارسية العظمى، ولولا جرأته في اقتناص الفرص لما نجح في مسعاه. لو كان النجاح يملك لساناً يعظ به لقال: أيها الفاشلون في ذمة الكسل، امتلكوا شجاعة فعل الفشل!

النجاح بالدأب
وإليكَ نجاحٌ آخر بفضل عقدة النقص؛ إذ قد ينجح بعض التافهين لأن موهبتهم محدودة، واختياراتهم معدودة، فلا يستغرقهم التفكير والتشتت؛ بل أمامهم هدف واحد يسلطون عليه جِماع طاقتهم. وبأمثال هؤلاء المُجدِّين تقوم عمارة الدنيا. ولقد ذهب نيتشه -عليه السلام- إلى أن محدودي الأفق ينجحون؛ لافتقارهم إلى الحرية وتعدد الدوافع والبدائل والاحتمالات التي قد تشتتهم؛ فالواحد منهم أسرع في القطع بالرأي، وأنشط عند التنفيذ.
التافهون واثقون مما يريدون، أما النبغاء والنبهاء فالشك يتكاءدهم، يجعلهم يقدمون قدمًا ويؤخرون أخرى. وإنما جُعِل الإنسان ليستعيض عن نقيصة في ناحية بفضيلةٍ في أخرى؛ لهذا فأكثر ما ينجح أوساط الناس، بل ومن هم دون الوسط، إذا استدركوا نقص الموهبة بالاجتهاد. فإن الاجتهاد يزيد احتمال النجاح.
أمَّا النابه المتراخي، الملعون باختلاف المواهب، فهو أصدق صورة لحمار بوريدان: إنه إذا قرأ قصيدة عصماء أراد أن يكون شاعرًا، وإذا تصفَّح من الأدب روايةً متقنةً هفا إلى أن يكون أديبًا، وإذا استمع إلى موسيقى مطربة تحركت نفسه أن يصير موسيقيًا، وإذا شاهد من الفن فيلمًا شائقًا تاقَ أن يَحُول مخرجًا، وربما زيَّن له غروره أن يكون عالمًا فذًا في بعض العلوم، أو فنانًا قديرًا تحار فيه العقول. إنه لا يقر قراره على شيء؛ لأنه يظن في نفسه القدرة على أن يكون ما يشاء، فإذا به ينتهي بلا أي شأن. فلنعْلَم جميعًا: التشتت مَعْجزة. والفَلَاح مقدَّرٌ لمن أفلت من التشتت.
النجاح حظ
مَنْ قال إنَّ واحدًا بالمئة من النجاح حظٌ، وتسعًا وتسعين بالمئة منه اجتهاد، ومن قال إن تسعًا وتسعين بالمئة منه حظٌ، وواحدًا بالمئة منه اجتهاد -كلاهما على صواب. إنَّ جميع شؤون الإنسان رهن الحظ والاحتمال. والحياة مثل النرد وطاولة الروليت: مسألة احتمالات.
النجاح إحصائيًا هو الإصابة بالاتفاق (بالعشوائية) بفضل الدأب والتكرار أو الصدفة المحضة [ما الصدفة؟ ضرورة لم تُرد إلى أصولها]. وشرط النجاح في الدنيا الاحتياط لتقلبات القدر، أو تقليل إنتروبيا الحظ العاثر، بزيادة فرص النجاح واحتمالاته؛ بالدأب والتكرار والحيلة والمحاولة، وهو ما لا يكون إلا بسبب من تشاؤم راسخ في الذهن.
إن الفلاح المتشائم -كما يقول يوفال نواح هَراري- هو من نجا من مواسم الجفاف العارضة. هذا صحيح، فإن الربة فورتونا التي يخضع لها البشر والآلهة جميعًا، لا يؤثر فيها شيءٌ بمقدار طفيف من التشاؤم المفيد، المحرِّض على الفعل، ولا يتكاءد المطامح.

حسد التفاهة
ومن الطريف أن يكون بعض النبغاء والنبهاء أحْسد لمشاهير السفهاء والجهلاء من حسد هؤلاء لهم! فإن سؤال: «لماذا ينجح التافهون؟» لا يسأله إلا حسودٌ يظن نفسه أحسن من جمهور التافهين حتى وإن رهن نجاحه بشروطهم! وهذه مفارقة عجيبة، أسميها «حسد التفاهة»، وهي عقدة تشبه أسطورة حسد القضيب الفرويدية، وتفضح نوعًا من التعالم وجنون الاضطهاد في نفس السائل. إن الراهب المنقطع عن لذَّات العالم، ربما لا يسأل نفسه قط: «لماذا يحيا العلمانيون منعمين؟» لأنه إن سأل هذا السؤال لم يكن راهبًا حقًا، فالراهب الحق يضن بنفسه عن هذه المباذل، ولا يقيم وزنًا لها. إن من يعرِفُون لا يَحْسِدُون، ومن يَحْسِدون لا يَعْرِفون.
فيا سيدي الحسود الحقود، الموتور من مظالم الحياة، اعلم أن هذه هي حال الدنيا، منذ نزول جدنا القرد من فوق غصن الشجرة، إلى أن تبلع الإنتروبيا العالم في نهاية التاريخ؛ ما طرح الحمقى والتافهون للناس ما يشعرهم بالسعادة إلا وأطرفهم هؤلاء بوابل من الحفاوة، فإما أن ترضع معهم أو تنقطع عن الشكاية منهم. فالناس غير مدينة لك، برجاحتك ونبوغك وحبك العلم وتحصيله، فإنك لم تصبح ما صرت إليه، إلا لأنك تجد فيه لذة. وكذلك للناس لذائذهم. ولا يحق لك أن تأكل مع العلماء ثم تندب مع السفهاء سفه التافهين. فإن شر الضيوف من أكل وذم الطعام بعد الشبع. وشر التافهين من يأكلون من مآدب التافهين ويذمونهم. ويأيها المثقف المتأدب، ويأيها الأديب من غير أدب، إن كنت لا تقنَع بالفكر لوجه الفكر، فأنت سفيه دخيل، ضل طريقه إلى جنة النابغين، وهو يقصد جنة التافهين؛ فإن العقل مكافأة نفسه.
إن التافهين استثمروا وقتهم في صناعة الدوبامين والسيروتونين. والناس منذ كانوا مدمنو دوبامين. وهم شرهون تلقاء كل ما يجلب السعادة. والعلماء إنما أنفقوا أعمارهم في ما يكدُّ الذهن، والناس تنصرف عما يؤلم أذهانها بالتفكير. وأغلب الناس مثل مريض بمرض عضال يستعين على الألم بالأفيون. وهم جميعًا ثلاثة أصناف: صنف آثر التفاهة ولذَّاتها إما استجمامًا من بعد تعب أو إشفاقًا من مشقة عمل، وصنف آخر سلك مسلك العلم والفن والفكر، وصنف بين بين حاول الجمع بينهما، فهو عالم يتكسب بعلمه من جمهور التافهين، أو تافه وضع نفسه في خدمة بعض النابغين.
ليس لذئبٍ أن يطارد أرنبين معًا؛ فإما المال والصيت والنفوذ، أو العلم والمعرفة واكتناه الحقائق. ولله در ول ديورانت الذي قال إن الحياة أقصر من أن يجمع فيها المرء بين الثروة والثقافة. لهذا فإنني سأسمح لنفسي بتحريف مقولة القدماء: من طلب المال بالكيمياء افتقر، لتكون: من طلب الجاه بالفكر افتقر!
فإما أنْ تطلب الكيمياء لوجه الكيمياء، أو تطلب المال لوجه المال؛ فإنك إذا طلبت المال بالكيمياء أخفقت إخفاق من طلب الكيمياء بالمال دون تحمل مؤونة الطلب والدراسة. أما من يطلب الكيمياء لوجه الكيمياء ومنافعها، ومن يطلب المال لوجه المال وأغراضه، فكل منهما أقرب إلى نوال مراده. ولمَّا كان التافهون محرومين من لذَّات العقول؛ فقد استعاضوا عنها بلذَّات أخرى كالمال والشهرة. وأما الألبَّاء فقد وجدوا متعتهم في أذهانهم. لقد استوفوا حقهم!

خطر التافهين
ومن نوافل الكلام أن السبب الرئيس في شهرة التافهين أن جمهور الناس كالدواب الهاملة، والحال أنهم جهلاء أغبياء، لهذا تكسد عندهم بضاعة العلماء والعقلاء، وتنفق لديهم بضاعة التافهين والمزيفين والدجالين والأغبياء. [لكن ما قيمة الأذكياء لولا الأغبياء؟ ما قدر النابغين لولا التافهون؟].
والدنيا رغم ذلك لا تسير القهقري، فإن صيت التافهين ونجاحهم وإكداء العاقلين وبؤسهم هو الحال الطبيعية؛ إنه يثبت رهان الدرويش الفرنسي برجسون: ليس للعقل أن يهزم الغرائز. فإن الغالب على القوم حب الراحة من التفكير. والإنسان مثل سائر الحيوان، لم يوجد ليفكر بل ليبقى، وإنما التفكير كان فلتة غير محسوبة من فلتات الطبيعة. فالعقل في الطبيعة، مثله كالذكاء الاصطناعي في الحضارة البشرية، إنهما مسخ الدكتور فرنكنشتاين، الذي تمرد على خالقه: طفرة نتجت عن خطأ غير محسوب.
من أجل هذا فإن احتقار التفاهة لا ينبغي أن يعمينا عن دورها الخافي في التطور والارتقاء؛ التفاهة مريحة للعقل، أما كد الذهن والتفكير فيستنفد الطاقة والهمة. يظن الناس أن الإنسان بطبعه عقلاني، [آه، إنني أضحك جدًا] وهذا وهم أقرب للنكتة، لأن الأصل في الإنسان أنه بهيمة تأكل وتتزاوج وتموت.
ولعل المخبول جون جاك روسُّو قد أصاب شيئًا من الحق، عندما قال إن الإنسان المثقف حيوان فاسد؛ فإن ظاهر الأمر أن الإنسان الهمجي، الذي لا يفكر كثيرًا، هو صحيح الفطرة، وهو الغرض المنشود للطبيعة، ولبقاء النوع.
فإن الدماغ البشري قد تطور في طريق توفير الطاقة، إنه أقرب لطائرة في وضع «الطيران الآلي» دون أن يكون من وراء ذلك إرادة عاقلة، كان ذلك جزءًا من خطة أمنا العمياء: الطبيعة، هذه هي الحلقة الغريزية الحتمية التي لاحظها شوبنهاور.
إن التفاهة أحيانًا تكون ضرورة، وتخفي من حكمة الحياة ما لا يستوقف نظر الحاقدين على التافهين. فلمَّا كان الإنسان حيوانًا ثديًا، ولما كانت الطبيعة هي من غرزت في الثدييات حب اللعب؛ لمنافعه في التعلم والتكيف وتوثيق العرى الاجتماعية وقدح الذكاء؛ فإنك تجد أن لعْب الأطفال، وهو ما لا مشاحة في تفاهته، حتى هو لا يخلو من بعض الضرورة.

ضرورة التفاهة
وإيثار التافهين على العلماء داء قديم؛ فقد كان الغالب على خلفاء الإمبراطورية الإسلامية وأمرائها -في جميع أطوارها- إعلاء شأن الشعراء والأدباء والبلغاء على حساب المهندسين والحسَّابين وسائر أرباب الصنائع: من الخيميائيين، والأطباء، والصيادلة، والبياطرة، وصناع الحيَل؛ ولولا دخول التنجيم والدجل في صنعة علماء الهيئة لبارت بوارًا.
وحتى في الغرب البيزنطي والروماني، كان نظام التعليم السُّبَاعي الذي وضعه ماتريانوس كابيلّا يبدأ بالثالوث الشهير: النحو والبلاغة والمنطق، ثم تأتي الهندسة والحساب والموسيقى وعلم الفلك، بعد ذلك. إننا لا نكاد نعرف أسماء المهندسين الذين صنعوا العجائب في العصور الوسطى لكننا نعرف جل الشعراء. والحق أن مهندسًا واحدًا يرجح مائة ألف شاعر – إننا مثل أسلافنا نغالي في قيمة الفن على الصناعة.
لكن دولة من العلماء والفلاسفة أو من الصُّناع والزُّرَّاع محكوم عليها بالفشل ما لم تضم طوائف التافهين والمشعوذين والدجالين وأصحاب الهوى من كل نوع وطراز. وانظر إلى ما انتهت إليه الإمبراطورية السوفيتية -عليها رحمة الله. إن جمهورية سيدنا أفلاطون جُعِلتْ لتكون محاكاة ساخرة للجحيم – كانت تجربة ذهنية لأديب متفلسف أتلفته الميتافيزيقا. لو كان كل الناس علماء، لكسدت المباريات ولخمل أغلب المشاهير من الفنانين والممثلين والمطربين والرسامين والمصورين والراقصات والراقصين، ورجال الدين والمجانين، ومن لا عمل لهم ولا قيمة ولا وظيفة، إلا مساعدة الناس على إضاعة أوقاتهم بسرور عميم، أو تخديرهم بالبنج والأفيون.
فالتافهون المحنَّكون يعيشون على فشل عامة الناس، يخاطبون غرائزهم، ويتطفلون على أوقات فراغهم، ويساعدونهم على تدمير أنفسهم من أجل مكافأة وقتية. [وإذا لم نكن نعامل معاملة الروبوتات، فمن حق الإنسان منا أن يدمر نفسه أيضًا] إنهم محترفو إضاعة الوقت، هم خبراء في تبديد العمر بألف طريقة وطريقة.
لكن الإنسان -مهما بلغ عقله- يحتاج الاستجمام لا محالة. حتى الحصفاء والألباء لا يخلون من جنوح للتفاهة للترويح عن أنفسهم. وما من أحد إلا وفيه حب مضمر للسفاسف؛ التفاهة تجعل الحياة محتملة. قال علي بن أبي طالب، فيما زعم الزاعمون: «لكل حكيم حمقة فبها يعيش»؛ لولا التفاهة لانشق الإنسان ضجرًا. وهكذا فالعلماء بعضٌ من جمهور السفاء، لكن السفهاء ليسوا من مريدي العلماء. فالأولون أعظم جمهورًا. فليست القسمة جائرة، بل عرض وطلب.
لقد عرفنا من برتراند رسل أن العالم لو تألف من الحكماء والقديسين فقط لكان «مملًا مللًا قاتلًا»، ولكن يكفي القليل منهم لكي تستقيم الحياة؛ لأن أساس الحياة الحيوي وأصلها الحيواني تستكمله الحضارة ولا تستبدله. وقد تعلَّمنا من إرنست رينان أن للتافهين وظيفة جليلة في هذه الدنيا، وهو القيام بالأمور التافهة، التي لولاهم لاضطر إلى النهوض بها العقول العظيمة. وهذا -لعمري- تبديد لثروة ذهنية في غير محلها؛ لهذا فإن خليقًا بنا أن ندعو الله لكي يديم حياة التافهين؛ فإن لهم وظيفة في عمارة الأرض ودورة الاقتصاد، حتى وإن كانت لا تناسبنا. إننا بحاجة للتافهين مثلما نربأ بأنفسنا عن الكُنَاسَة، ولا نكاد نستغني عن الكنَّاسِين.