مشتقات الفكاهة.. أسماء الكوميديا الحسنى
يلتبس على بعض الناس الفكاهة بالسعادة، وربما يخلطون بين الكوميديا والضحك. والكوميديا ليست شرط الضحك، مثلما الضحك ليس شرط الكوميديا؛ مثل الدغدغة التي تبعث على الضحك بلا كوميديا، كذلك فإننا لا نعدم كوميديا بلا ضحك أيضًا، ومنها مسرحية «ميدو وشركاه» التي ألفها إبراهيم المازني. وربما يأخذ منك العجب كل مأخذ إذا عرفت أن مسرحية شكسبير «تاجر البندقية» إنما هي مسرحية كوميدية باصطلاح أهل الصناعة آنذاك؛ فالكوميديا كانت تعني في الآداب الأوروبية في ذاك الزمان الروايات ذات النهايات السعيدة، في مقابل التراجيديا التي تختم بنهاية حزينة، ويقع فيها البطل ضحية القدر.
وهو ما يفسر لك سبب تسمية دانتي ملحمته «الكوميديا»، ولا يوجد فيها أي شيء ضاحك على الإطلاق، وإنما هي كوميدية بهذا المعنى القديم، لأنه انتقل فيها من الجحيم فالمطْهَر ثم كانت النهاية السعيدة في الفردوس، وكذلك الحال من جهة تفسير عنوان قصص وروايات بلزاك المسماة الكوميديا الإنسانية؛ رغم أنها غير ضاحكة في مجملها، فليست كل كوميديا فكاهية بالضرورة.
والكوميديا بمعناها الفكاهي ليست في منزلة واحدة، بل على مراتب ودرجات، فإن منها الكوميديا الهادفة التي تنقد مكامن الضعف في النفس البشرية، أو تفضح عوارًا في الدولة ونظام الحكم، فكأنها والحال هذه مثل الصحافة التي تقوم مقام ضمير الأمة. ومنها الكوميديا الماجنة التي تقوم على الفحش والبذاءة مثل مسرحيات بلاوتوس وتِرنتِيوس في روما القديمة. ومنها الكوميديا الهابطة الدائرة على التهريج، والاستعراض الهزلي وحشد النكات المبتذلة، بلا سياق يرتقها، أو غرض يوجبها، سوى إثارة ضحك جمهور العوام، وهو ما تكون عليه أغلب الكوميديا المصرية في هذا الزمن، وأبرز مثال عليها «مسرح مصر». وغاية القول: إن لدينا فنونًا مضحكة لكنها غير كوميدية!
لقد استحوذت الكوميديا على الفن المسرحي لدينا استحواذًا يكاد يكون تامًا، حتى صارت كلمة مسرحية عندنا اليوم تكاد تكون كناية عن الكوميديا، من غلبة الكوميديا على المسرح، حتى نسينا أن الكوميديا نصف الفن المسرحي. والأدهى أننا لا نكاد نفرق بين أنواع الفكاهة؛ فنحن لا نفرق بين المسرحية الكوميدية (comedy) والمسرحية الهزلية (farce) والأخيرة -كما يخبرنا مجدي وهبة في معجمه- مسرحية قائمة على التهريج الذي قد ينحدر إلى الابتذال لإضحاك الجمهور.
ولا يكاد الكوميديون عندنا يفرقون بين الكوميديا والاستهزاء والتهريج. ولعلك تستغرب إذا عرفت أن التهريج فنٌ قائمٌ بذاته، وهو ما يسميه الغربيون (slapstick) وقوامه الصخب والحركات البهلوانية الفجة لإضحاك الجمهور، لكنهم لا يجعلونه مرادفًا للكوميديا، مثلما يميزونها عن فن الاستهزاء (sarcasm) وهو هجوم ساخر ينطوي على احتقار مُر. كما يميز الغربيون تمييزًا واضحًا بين الكوميديا وفن الهجاء (satire) لكننا لا نكاد نفرق بين الكوميديا وسائر الفنون الفكاهية المثيرة للضحك، مصداقًا للمثل الدارج: «كله عند العرب صابون».
أسماء الفكاهة
والسبب في هذا الخلط بين مشتقات الفكاهة عندنا، أن الكوميديا لم تكن من الفنون العربية الأصيلة؛ فالكوميديا مثل الأوبرا والمسرح والرواية وفن الإيماء (mime) والتمثيل بأنواعه – فنونٌ لم يعرفها أهل الشرق الأوسط، وإنما استعاروها من الأمم الغربية، ولا أدلَّ على ذلك من أن اللفظ قد حار في ترجمته المترجمون، فتارةً عرَّبوه تعريبًا غير دقيق فسموه «الهجاء» مثل إسحاق بن حنين (ت 910م) ومتى بن يونس (ت 940م). وتارةً نَقْرَحُوه (ترجموه صوتيًا) إلى كوموذيا أو كومديا مثل بطرس البستاني (ت 1883م).
ثم عاد تعريبه بقلم عباس العقاد إلى «مهزلة» وهي محاولة فاشلة -لأن كل مهزلة كوميديا وليس كل كوميديا مهزلة- حتى جاء محمود تيمور (ت 1973م) فترجم الكوميديا إلى «المسلاة»، وأقرَّه عليه الأديبان علي أدهم وكامل الكيلاني، وهو تعريب أدق من التعريب الشائع: الملهاة -كما يذهب صديقنا الناقد نزار البقار وهو ما نؤيده فيه- لأن الكوميديا ليست لهوًا بالضرورة، ولكنها حتمًا تسلية؛ فإنها تتوخى الترويح عن أنفس الجمهور، حتى إذا عالجت موضوعًا غاية في الجد والخطورة.
وإننا في هذه المقالة وما يتلوها من مقالات لا نقصد الكوميديا بالمعنى الفني الضيق، ولكن بمعناها الواسع الذي يستوعب الفكاهة والسخرية والتهكم والهزل والتهريج فضلًا عن النكت والظرف والطرف والدعابة إلخ. وأنا على مذهب خورخي بورخيس: لا أومن بتعدد المعاني باختلاف المترادفات؛ فأحيانًا يكون الترادف خدعة لغوية، يتناسخ فيها المعنى الواحد في ألفاظ عدة، حتى لو حاول المتفيهقون من واضعي المعاجم إيهامنا بغير ذلك.
فإننا في العربية لا نكاد نفرق بين الفكاهة والمزاح والدعابة والملح والهزْل، أو التهكم والسَخْر (السخرية) والهزء (الاستهزاء)، بل وقد يأخذك العجب إذا عرفت أن ألفاظ: «الطَرَافة» و«الظُرْف» و«النُكَت» لم تكن تفيد الفكاهة كما هو معناها في الاستعمال المَلَوك الآن، وإنما كانت تعني على الترتيب: الجِدَّة، والمروءة، ودقائق المسائل، فقد استدار معناها مع الزمن، مثلما استدار معنى لفظة (Humour) في الإنجليزية من معنى المِزاج -أو المزيج، بحسب نظرية الأخلاط الأربعة في الطب القديم- إلى معنى الفكاهة وروح الدعابة.
الفن الرعاعي
فإن قال قائل: إذا كانت الكوميديا تعالج أحيانًا موضوعات جادة -بل هي كذلك في الأساس- فبأي حق تعد الكوميديا فنًا دونيًا؟ قلتُ: ليس غرض المقال الحط من فن الكوميديا، لكننا لا ندرأ التهمة أيضًا، ومفزعنا في ذلك إلى تاريخ الفن وشهادة أهل الاختصاص فيه؛ فلطالما كانت الكوميديا منذ السحيق فنًا رعاعيًا من الطراز الأول.
منذ طفولة التاريخ والكوميديا هي الفن الوحيد الذي أجمع الرعاع على حبه، منذ المهازل الماجنة على مسرح ديونيسوس على منحدر هضبة الأكروبوليس في اليونان القديمة. والجماهير منذ القديم هم وقود الكوميديا، منذ مسرحيات بلاوتوس وتِرنتِيوس الشعبوية، بل وحتى أقدم الفكاهيين الإغريق السابقين على أريستوفانِس أمثال: كراتينوس وخيونيدِس حتى نصل لجد الكوميديا الأكبر إبيخارموس.
لطالما كانت أيسر وسيلة لاستلاب الجمهور على مر العصور بإغوائه بالضحك. يعرف دهاة المنتِجين من أين تؤكل كتف الجمهور؛ المنتَج الكوميدي قليل التكلفة وسريع الانتشار عند الناس؛ بما تشيعه الكوميديا من راحة في نفوس الجمهور على غرار النظرة السطحية للحياة في كتب الأدب الفيكتوري، حيث توزع الجوائز والنهايات السعيدة على أصحاب المثل والفضائل في ذيول الروايات استجداءً لرضى القراء التعساء، فلا غرو أن تكون الكوميديا الاسم الاصطلاحي للروايات ذات النهاية السعيدة في بعض القرون!
ويكاد يجمع نقاد الفن على عد الكوميديا ومشتقاتها أحط الفنون طرًا، أو على أقل تقدير أدنى كعبًا من الملحمة والتراجيديا، ونذكر منهم على سبيل التمثيل لا الحصر: أرسطو، الناقد الأول، وجيوفري الفينسوفي (Geoffrey de Vinsauf) (من القرن الثالث عشر) مرورًا بالإيطالي ياقوبو ماتسوني (Jacopo Mazzoni) (ت 1598م) والناقدين الإنجليزيين جورج باتنَم (George Puttenham) (ت 1590م) وجون دنيس (John Dennis) (ت 1734م) وغيرهم ممن لا يستوفيهم الإحصاء.
ولا أدل على ما نقول من أن أعظم الآثار الأدبية والفنية في تاريخ الأدب والفنون لم تكن -في أغلبها الأعم- ساخرة أو كوميدية. ألا يلفت هذا نظر المتأملين؟ إن أعظم مسرحيات شكسبير لم تكن كوميدية (بالمعنى الهزلي للمصطلح) وأقيم القصائد العربية لم تكن في الهجاء. أنا لست عرافًا ولا منجمًا ولكني أستطيع أن أخمَّن أن أفضل الكتب الأثيرة عندك، إن كنتَ من سوس الكتب، ليست من الأدب الساخر. وإذا كنتَ من هواة السينما، فإن أقيم الأفلام التي تفضلها أغلبها غير كوميدي. إذا كان حدسي مصيبًا، كيف تفسر هذا التناقض؟ أعني: التناقض بين ميلك للمضمون الكوميدي وتقديرك الأعمال غير الكوميدية؟ التفسير بسيط، الكوميديا مثل الاستمناء: تحقق متعة وقتية، لكنها لا يمكن أن تصير شريك حياة.