احذر متلازمة بانغلوس

أحد أظرف ابتكارات فولتير الأدبية، في روايته الشهيرة “كانديد”، هي شخصية الفيلسوف بانغلوس المتفائل، الذي كان معالجة كاريكاتورية ميلودرامية للفيلسوف الألماني لايبنتس، وأفكاره.
كان الفيلسوف بانغلوس المتفائل -فيما يروي فولتير- أستاذاً في علم يسمى “ميتافيزيقا اللاهوت الكوني” [هع]، وكان لقبه المتفائل لأنه كان يجد كل شيء في هذا العالم يسير إلى أفضل الغايات، وأن الأمور لا يمكن أن تجري على غير ما تجري عليه، وتنتهي إليه؛ لأن ما يحدث هو أفضل ما يمكن أن يكون. وكان هذا ما يعلمه البروفيسور بانغلوس لتلميذه كانديد.
الفيلسوف بانغلوس هو نفسه صاحب المقولة الذائعة ذيوع المثل: “لاحظوا جيداً أن الأنوف قد وُجدت لتحمل النظارات”! وكانت هذه طريقة فولتير في السخرية من أصحاب مذهب الغائية، الذين يقلبون السبب إلى نتيجة، والنتيجة إلى سبب، ممن لا يتحملون عبثية الحياة، وأن الاعتباط هو الأصل في حدوث الأشياء، وأن العقل البشري هو من يصنع المعنى.
كلما رأى بانغلوس مصيبة لا معنى لها ولا تبرير إلا العبث والصدفة، أو قرار بشري خطأ، كان يحاول جاهداً أن يسوغها تسويغاً يبين أنها كانت أفضل البدائل الممكنة. حتى الزلزال الشهير الذي طرأ على مدينة لشبونة عام 1755م، ودمرها تدميراً، حتى لم يكد يذر فيها حجر على حجر، حاول أن يسوغه بالقول إنه كان في نهاية المطاف أفضل ما يمكن أن يكون!
ولم يرتدع البروفيسور بانغلوس عن أفكاره حتى بعد إصابته بالسفلس، فقد حاول تسويغ إصابته بهذا المرض الفتاك آنذاك، بأنها كانت جزءاً من المصلحة البشرية الكبرى، وأنه لولا السفلس الذي أحضره كولمبس معه من أمريكا، لما أكل العالم الشوكولاتة!

فلسفة بانغلوس
كانت فلسفة بانغلوس باختصار أن المصائب الخاصة ضرورية من أجل الخير العام، وكلما زادت المصائب تحسن كل شيء!! وفي النهاية مات بانغلوس موتة عبثية جداً تليق بأفكاره، وقد تعمدها فولتير حتى تكون تتويجاً لحياة هذا الفيلسوف المتفائل جداً، الذي قضاها في إنكار لا يليق لعبثية أحداث ووقائع الحياة، وفي محاولة تسويغ القرارات الخاطئة، التي قد يتخذها الإنسان، وترتد وبالاً عليه وعلى من حوله، وتسويغها بدفاع ساذج، بحجة أنها حتماً ودائماً أفضل الممكن في نهاية المطاف، وأنها لا تكون إلا في سبيل غرض نهائي وهمي أو غاية مثلى قصوى.
حكمت محكمة التفتيش بالإعدام شنقاً على الفيلسوف المتفائل بانغلوس. لماذا؟ لأنه تكلم! لهذا السبب وحده حكم عليه بالشنق! وحُكم على تلميذه كانديد بالجلد لأنه سمعه وهو يتكلم فحسب. كان هذا قراراً عبثياً جداً، صدر عن مسؤول مختل عقلياً، لا تفسير له ولا تسويغ، إلا إنه بحسب فلسفة بانغلوس المشنوق، ربما كان أفضل ما يمكن أن يكون أيضاً!
[وكان كانديد مضطرباً ومضرجاً بالدم يقول في نفسه في رعب وحيرة وذهول: “إن كان هذا هو خير ما يُمكن من العوالم، فما عساها تكون العوالم الأخرى؟ … أسفاً عليك يا عزيزي بانغلوس! يا أعظم الفلاسفة! أكان ينبغي أن أراك مشنوقاً من دون أن أعرف السبب؟”.]
الانحياز التفاؤلي
البروفيسور بانغلوس هو استعارة لما يسمى في علم النفس “الانحياز التفاؤلي” أو التفاؤل غير العقلاني. بانغلوس هو نموذج للضعف البشري، الذي لا يتحمل اللامعنى، وأن الإنسان قد تقع له مصيبة، أو تنزل به داهية من الدواهي، دون أي هدف، وربما يبذل تضحية وتذهب سدى.
أغلب بني الإنسان لا يتحملون لامعنى الحياة، وأن الأصل في الأشياء هو الاعتباط والصدفة. هذا الإدراك يحتاج إلى قدرة عقلية وحدة ذهن وشجاعة فكرية تفتقرها الأغلبية العظمى من البشر. نظرية المؤامرة نفسها -وهي في رأيي درجة مخففة من الذهان- كانت وسيلة من العقل البشري لمقاومة اللامعنى.
أنا لم أقع في حياتي على شخص، مهما بلغ من الوعي والاستنارة، وكان لا يؤمن بنظرية مؤامرة واحدة على الأقل – أعرف أفاضل بلغوا درجة عالية من العقلانية والتفكير المنطقي، لكنهم مؤمنون في الوقت نفسه مثلاً، أن الولايات المتحدة لم تصعد إلى القمر في برنامج أبوللو 11، وأن المسألة برمتها كانت خدعة محضة!
جميعنا في نهاية الأمر بشر، ضعفاء ومعرضون للخطر في كل لحظة، ونحتاج لأي معنى يجعلنا نكمل حياتنا في أمان ولهدف، أو على الأقل يشعرنا بأن عدم الأمان وغياب الهدف الواضح، هو جزء من خطة كبرى وهدف أعظم لا نراه، ولكنه لصالحنا في النهاية.

متلازمة بانغلوس
إن بانغلوس ليست فكرة فولتيرية محضة، بل هو نمط نموذجي (archetype) لأصناف من الناس كانت ومازالت موجودة، أنواع من البشر ترى كوارث الدنيا بعدسات متفائلة، لتخفف من وطأة تأثيرها النفسي عليهم، أو للتنصل من مسؤولية أفكارهم وقراراتهم.
هناك من يرى أن ما يحدث في غزة كان حتمياً، وأنه أفضل الممكن، وما كان من سبيل آخر لتجاوزه وتلافيه، وأن “المسلحين الفلسطينيين” لم يكن أمامهم خيار آخر غير ارتكاب مذبحة 7 أكتوبر الشنعاء! إننا نرى بعض من يسمون “خبراء عسكريين” من العرب يتفقون مع هذا الرأي. يوجد كثيرون في داخل الولايات المتحدة وخارجها يرون تصرفات الرئيس ترامب منطقية جداً، بل وحتمية، وأنه ما من خيار آخر أمامه، غير هذه القرارات الاقتصادية السياسية “الكارثية” التي يتبعها! لا أتكلم عن عوام الناس فحسب، بل وعن بعض النخب ممن يسمون “محللين اقتصاديين” منهم أصدقاء فضلاء.
مهما حاولتَ الإتيان بكل بينة ودليل على أن مثل هذه الكوارث الحاصلة عبثية، وأنها لا تخرج عن كونها عواقب كارثية، لقرارات خاطئة أو إجرامية، لا أكثر ولا أقل، ومهما قلتَ إن هذه القرارات العبثية، التي لن نعدم طريقة لتسويغها تسويغاً عقلياً بأي ذريعة، قد يترتب عليها تضحيات جسيمة تذهب في سبيل اللاشيء بالمعنى الحرفي لكلمة “لا شيء” – لذهب تعبك باطلاً!
وليس المقصود بـ”تفاؤل” أصحاب هذه الآراء، أنهم ينكرون وجود كارثة أو فاجعة. كلا، بل هم يعلمون تمام العلم، أنهم إزاء كارثة مكتملة الأركان، ولكن المقصود بتفاؤلهم ههنا تصديقهم في وجود غاية أو غرض، وأن الكارثة ضرورية وأفضل الممكن وأنها جزء تكتيكي ضمن استراتيجية كبرى (مثل مفهوم الخطة الإلهية في المسيحية) وأن هذه الاستراتيجية قد تكون “إعادة إحياء القضية الفلسطينية” أو “إنقاذ أمريكا من الإفلاس”. وهكذا تتشكل ما أسميها “متلازمة بانغلوس”.
العقل البانغلوسي ليس مهيأً للأخذ في الحسبان وجود احتمالات والخيارات البديلة، ولا عنده أدنى استعداد لتصديق عدم وجود خطة من الأصل، وانتفاء المكسب قصير أو بعيد الأمد. هو لا يصدق هذا لنقص في المعلومات يفتقر إليه، بل لأنه “لا يريد” أن يصدق، أو لأنه “لا يستطيع” أن يصدق أن تضحية عظيمة ذهبت مدارج السدى. ولأجل هذا، في يوم من الأيام سخر العظيم نيتشه من اعتبار أن شيئاً صحيح لمجرد أنه ضُحّي من أجله!

الإنسان البانغلوسي
المرء منا أميل دائماً إلى تصديق الوهم المريح على تقبل الحقيقة المؤلمة، وأقرب إلى تفضيل الإجابات السهلة دون الإجابات المعقدة، وأدنى إلى تصديق الخرافة التي لها مظهر منطقي بدلاً من تحري المنهج العلمي الممل والصعب والمحبط أحياناً. والثقة في الحدس والخطابة، أكثر من المنطق القائم على الدليل.
إن الإنسان بحكم تكوينه العقلي القائم على إدراك الواقع وفق قاعدة السبب والنتيجة، أميل دوماً للاعتقاد في وجود سبب، حتى في حالات عدم وجوده، وهذا أحد أشهر أنواع الضلالات التي ما من أحد منا -مهما كان تعليمه وذكاؤه- محصن من الإصابة به.
من أجل هذا ينبغي عليك أن تراقب أفكارك، وتدع احتمالاً أنك مخطئ لكنك غير منتبه لموضع خطأك. يجب أن تفترض أنك قد تفتقر إلى معلومة ضللت عنها، قد تغير حكمك، أو تحتمل وجود احتمال آخر لم تعطه حقه من النظر والاعتبار، أو أن لك مصلحة نفسية في تصديق معلومة معينة، أو الانحياز لرأي دون رأي. من الضروري أن ترفع قلمك، وتمسك لسانك في حالات عدم كفاية الأدلة. في النهاية كلنا بانغلوس في بعض الوجوه.